الرجوع الى الخلف أهلا بكم في مدونتي

الخميس، يوليو 23، 2009

لمـــــاذا ؟؟




الأحد، يوليو 12، 2009

قراءة في قصة - كؤوس - للقاص محمد فري .. لمجيد تومرت

دلف إلى الحانة بسرعة، وكأنه يتملص من ملاحقة مجهولة تثقل كاهله، اتجه كآلة مبرمجة نحو البارمان، رمى بثقله على حافة الكونطوار، اتكأ بذراعه وطلب كأس نبيذ أحمر قان هي افتتاح لزمن لا يستطيع التكهن بنهايته. تلك كانت........
...........................................................................
يلتفت يمنة ويسرة محاولا استرجاع تحليقه فيتثاقل جسده، يتحامل على نفسه ثم يسير مترنحا مبتعدا عن الحان إلى أن تبتلعه الظلمة.
...........................................................................
بمقارنة بين بداية القصة ونهايتها تكتمل بنية السرد ،فهو يبدأ بإيقاع سريع (دلف إلى الحانة بسرعة) وتتصاعد السرعة بشكل خطي تعاقبي عبر توالي الكؤوس التي تنقل البطل من حالة الوعي بالشروط الموضوعية التي دفعته إلى الحانة (وكأنه يتملص من ملاحقة مجهولة تثقل كاهله) إلى حالة الانتشاء الحالمة الواهمة في أقصى درجاتها بفعل السكر والانتشاء المؤقت (تحولت نشوة العناق إلى نشوة التحليق والطيران..) لتكون النهاية سقوطا مفاجئا وكأن السارد يعيد البطل إلى حالته الأولى.فتكتمل بذلك البنية الدائرية للسرد وتتحدد معها قصدية ورسالة الكاتب إلى المتلقي حسب قرائتي المتواضعة لهذا القصة .- الحانة فضاء للهاربين من الواقع وشروطه القاهرة ،ونشوة الخمرة لحظة تسام وهمية سرعان ما تنتهي لتلفظ الواهم إلى واقعه المرير .- تتخلل استرسال السرد وخطيته انكسارات بواسطة الفلاش باك و استرجاع لبعض أحداث و لحظات الماضي الجميل الضائع لتنير لنا ماضي الذات /الفاعل//البطل فهي قوى فاعلة ضمنية تدفع الذات الى احتساء مزيد من الكؤوس التي تفعل فعلها السحري فتتوالى صور الماضي الضائع في المخيلة المنتشية التي تتنزعه من الحاضر الكالح (تحضر الكأس فيهجم عليها كالثور الهائج، يفرغها في بطنه بصوت مسموع، غليان يحاول إطفاءه بالسائل الجهنمي، فلا تزداد النار إلا اشتعالا، تحمر عيناه وتستبد به الرغبة المجنونة، تذكر الليلة التي جلب فيها امرأة إلى بيته...) بل إن لحظة الانتشاء التام ستحول الحاضر و فضاء الحانة المعزول عن الخارج إلى حالة خارج منفلتة من الزمان والمكان والتناقض ،هي أشبه بلحظة التسامي والإشراق عند المتصوفة (خف الجسد وانقشعت الظلمة وقيل يا أحزان اقلعي .. فأقلعت عن الهطول .. وغيض الضيق والقنوط وأحس بنشوة تتلبسه وكأنها مس من فقدان الوعي .. الوجوه الكالحة استحالت إلى إشراق بهي..) وسرعان ما ينجلي الزيف ويسقط الوهم (لكنه سرعان ما يسقط على الإسفلت بجانب الرصيف جاهلا سبب انتهاء التحليق.. ) يعود البطل الى عالم الواقع ويعمق السارد بذكاء مأساته بهذه الجملة التي يختتم بها النص :" يتحامل على نفسه ثم يسير مترنحا مبتعدا عن الحان إلى أن تبتلعه الظلمة."- أخي محمد فري أبطال قصصك متشابهون الى حد كبير ،هم شريحة واسعة في مجتمعنا ،دونكيشوتيون إشكاليون واقعيون ضائعون ..يبحثون عن قيم في زمن ضاعت وتفسخت فيه كل القيم ..ولقد أجدت الكتابة عنها بتفوق، لغة وتقنيات ورؤية سردية تستوعب كل الخصائص المستجدة في فن القصة القصيرة في أدبنا العربي والمغربي المعاصر .
لمجيد تومرت
عن موقع : الحوار المتمدن.

قراءة نقدية في قصة " فارس بلا جواد"

قراءة نقدية في قصة " فارس بلا جواد"
للكاتب محمد فري

تنهض القصة على فكرة أساسية، وهي الواقع الأليم الذي يعيشه المواطن القروي المهمش الفقير، والذي يعتمد على منتجات الأرض،و ينتظر المطر بفارغ الصبر.يمتزج الأمل بالألم ليشيدا خيمة حلم يعيش صالح بن المعطي أو" دون كيشوت" تحت ظلها، إنه بطل القصة التي جعل محمد فري كلماتها مسدسات عامرة بقذائفها كما يقول بريس بارين Brice barain..
ينتقل بنا محمد فري في قطار من الأفكار، ينقش البداية والنهاية، فتشكل المعاناة دائرة مغلقة لا يخرج منها البطل.يشرق السؤال في سماء القصة، أنتقي منه خيطا لعلني أهتدي إلى مداخل ومخارج هذا النص:فارس بلا جواد.أمسك بشعاع المحور الاجتماعي فأرى صالح بن المعطي يعيش الفقر، باع جزءا من أراضيه هاجر أولاده إلى إيطاليا للبحث عن عمل بعد أن لفظتهم القرية، بقي وحيدا تطارده الديون من كل حدب وصوب،يأكل قطعة خبز ويشرب إناء لبن في الغداء.لماذا تردت حاله وأصبح يعاني ككل الفقراء؟ وما أصعب معاناة بطلنا عندما يستيقظ فلا يجدصحة ولا مالا ولا ولدا.تأملت شعاعا كان منطفئا، لكنني أشعلت فتيلته بالسؤال، فأضاءت نفسية صالح بن المعطي :شخص فقد الأمل وراح يتأمل الحلم ويتمسك به، حلم يذكره بالماضي البهي الجميل: -كان الخير كثير والزرع وفير- كان قويا شرب إناء السمن المذاب-كان فارسا يملك فرسا يجري عليه كالريشة ويلاعب بندقيته بمهارة.-كان يتوفر على الفرس البركي، وهو من الخيول الأصيلة، يقود فرقة الفرسان الذين سيقاتلون في معركة وهمية-كان يوفر لفرسه أحسن رعاية: عبرة من الشعير خالية من الحصي والحجارة الصغيرة، ودلو ماء صاف عذب، وحمام يومي للمحافظة على نشاط الفرس وحيويته.فجأة يتغير الزمن، يصبح راعيا لنعجات يبحث لها عن طعام مستحيل، كالدم لا يمكن أن نصنعه.كان فارسا أصبح راعياتحولت البندقية بفعل الزمن إلى عصا، وأيام العز تضيف حرفا للكلمة) العز( فتصير الأيام عجزا.تحضرني نظرية أوفيد في التحولات حيث يقول :" إن السماء وكل ما تحتها يتغير وكذلك الأرض وما تضمه، ونحن كذلك جزء من الكون، لأننا لسنا أجسادا فحسب، بل نحن كذلك أرواح مجنحة تستطيع أن تجد لها مأوى في أجساد الحيوانات المفترسة أو الأليفة".وعندما يغيب السؤال، نتساءل مع محمد فري: هل غياب المطر هو المسؤول عن تدهور وضعية صالح بن المعطي؟وهل المطر غاب لأن الأخلاق غابت؟ هل هو عقاب الله ؟ حسب خواطر البطل؟ربما هناك سؤال آخر لا أريد طرحه كما لم يطرحه الكاتب ينقش أسئلة كثيرة مسكوت عنها ......إن اللغة التي استعملها محمد فري في هذا النص هي من السهل الممتنع، تمتح مباشرة من معين اللغة الحية.ونشير إلى أن اعتماد التسلسل الفكري للغة بهذا الشكل يساعد القارئ على نسج ذلك الخيال وحتى إن كان مستعصيا على البعض .فاللغة المغربية تأتي على لسان صالح بن المعطي ولسان أعيان الخيمة الكبرى، تبتدئ بالدعاء وتختتم به وبين البداية والنهاية تشيد اللغة إشارات رمزية.دعيو معانا يا الشرفاسيروا الله يبيض سعدكمويقويكم على من عاداكمالإشارات اللغوية السيميائيةالحافظ الله : الانطلاقةآروا الخيل : سرعة الخيل وغبار يتصاعد بإطلاق الأعنة لهاشدوا الخيل : الاقتراب من خيط الوصول وشد الأعنةاستعدادا للطلقة الجماعية الواحدةالمكاحل المكاحل : رفع البنادق والإمساك بالأعنة وانتظار إشارة القائدهوبــــ : لحظة انطلاقة أصوات انفجار البارودوبعد هذه النهاية المتقنة للفرسان، واطلاق البارود بنجاح،نجد القايد من داخل الخيمة الكبرى يختم كلامه بالدعاء فيقول : الله يرضي عليكمالله يكون منكم الزرع والزريعةمعاكم دعوات السادات الصالحينهناك إشارات سيميائية شكلية : حيث نجد ثنائية بين البندقية والعصا، فصالح بن المعطي أو" دون كيشوت يرى العصا بندقيةألم يكن مهووسا بالفروسية ؟يقول السارد أيضا " إيه يالحظات الماضي..كان " مقدم الدوار " يأتي بنفسه باحثا عن " صالح بن المعطي " ليخبره عن رغبة " القايد " في إقامة " التبوريدة "..وأن حضوره مع فرسان الدوار ضروري.. "ويختم "..فتصطدم يده بورقة رثة.. ويتذكر إنذار القرض الفلاحي الذي عجز عن تسديد ديونه القديمة والمتأخرة."نلاحظ جليا أن استدعاء القائد يختلف عن استدعاء القرض الفلاحي....أود أن أختم هذه القراءة بما يلي :نص فارس بلا جواد له أكثر من بعد ....لم يعتمد محمد فري على العقدة والحل نظرا لأن القصة الحديثة لا يشترط فيها ذلكيستعمل محمد فري أسلوب السخرية متمثلا في قول السارد "الغيث صدر إلى الخارج"هناك ثنائية التضاد في نص مغلق مثل الدائرة لا يمكن للبطل أن يخرج من أجوائها فهناك الحلم أي استرجاع الماضي وهو خط مستقيم داخل الدائرة يمثل بلغة الرياضيات (-1) أما الصفر(0) فيمثل لحظة تواجده مع نعاجه وهو الواقع المِؤلم، ويبقى (+1) منعدما لعدة اعتبارات، هل سيمنحه القرض الفلاحي قرضا آخر ؟ هل هو الحلم بعودة الأولاد من ايطاليا؟ حتى وان سلمنا بذلك وقلنا يمكن أن نبدأ من( +1) فالواقع يرمز إلى السلبيوالسلبي مع الايجابي يشكلان وحدة سلبية.ومهما يكن من أمر فإن صالح بن المعطي يستمد قوته من خياله ويهرب من الواقع إنه فارس وجواده هو الحلم: حلم عاش ماضيا وانعدم حاضرا.
ثريا حمدون
منتديات مجلة أقلام

...

أعبر الطريق..أكتشف أنني وحيد رغم الازدحام الشديد..أحس برغبة في الصراخ، أدرك فقدان صوتي..أبحث عنه في كل الزوايا.. في كل الأبعاد..يواجهني الفراغ أغوص في داخلي أبحث عن أناي..أتيه في الأعماق في العتمة أتلمس الطفل.. أمد له يدي..أحاول أن أربت على رأسه أقترب.. أكاد ألمسه..فجاة، ينفلت مني..يغيب.. أعود إلى وحدتي..أتابع المسير.. أحاول أن أنسى..أحاول ألا أهتم لاشيء يهم.. لاشيء يهم . /
....
أزور المرآة كل صباح..طقس روتيني أمارسه كالعبادة الآلية..دون روح..دون شجن.. أحملق في الوجه الغريب..يحملق في بصلف، أكاد لا أعرفه، أحس بالتشظي ينبعث من أعماقي ويصعد إلى العيون الأربع المتقابلة..أغوص في فراغي، ألتفت في كل الأركان ،تحاصرني الأشياء بقوة..كم أحس بالضعف نحوها رغم تفاهتها، أشعر بتفاهتي تكاد تخنقني..أحاول الخروج من شرنقتي التي نسجتها يداي.. غريب أن تكون هي من خلقت إحساسي بهذا الوضع..تحاصرني الأسئلة حول الجدوى من العلاقة، كيف يستولي علي الانهزام ويسد علي المنافذ؟..هل انكسر مؤشر البوصلة، فتهت عن " الشمال " كما يقولون.. بالأمس حدثني صديقي العليم بكل شيء..أحسست بنبرة منزاحة تحرك كلامه، لعله يصنفني في خانة الصفر الفاقد للقيمة..أو يعتبرني ملغيا فاشلا لا يحسن مجاراة اللعبة..عن أي لعبة يتحدث يا ترى؟ فقدت الرغبة في اللعب منذ زمن..فقدت الإحساس بالأشياء..فقدت الثقة بالأخر..هل يجهل هذه الأشياء؟ كيف يحاسبني وهو لا يحسن الغوص في الأغوار؟..كيف يحاكمني وهو يجهل عدم اهتمامي بكل المواضعات..كل شيء عبث..كل شيء نخب هواء..لاشيء يهم..لاشيء يهم!!
محمـــد فــــري

...
النص تم توقيعه بمنتديات إنانا .

السبت، يوليو 11، 2009

القــ ــاعــ ــة..

صعد إلى المنصة بنشاط واضح، توجه نحو الطاولة المستطيلة ذات الغطاء الأخضر، كانت تتوسطها باقة من الزهور نسقت أجزاؤها بعناية، وبالجوانب صفت قنينات الماء المعدنية محاذية للكؤوس البيضاء الناصعة، تزاحم ميكروفونات ثلاثة نصبت استعدادا لنقل الصوت وتوزيعه بالقاعة الواسعة.
اتخذ مجلسه مقابل الميكروفون الوسط، بجانبيه جلس المشاركان في الندوة، تنحنح قليلا وكأنه يجس الصوت ويجرب مدى وصوله عبر الجهاز العجيب، وضع ملفه أمامه وجذب منه أوراقه، تأملها قليلا وتأكد من ترتيبها، نظر إلى رفيقيه وكأنه ينتظر إشارة الانطلاق..
وكانت القاعة في غاية الهدوء!
شرع يلقي عرضه متحمسا، كان صدى صوته يتردد بوضوح تام عبر الأبواق المنتشرة في أركان القاعة، وكان متأكدا أن أفكاره وآراءه تصل دون غموض أو إبهام، خصوصا وأن القاعة...
كانت في غاية الهدوء!
ارتاح للصمت المهيمن، واعتبره عنوانا للإصغاء والمتابعة، شعر بمتعة وهو يسترسل في إلقاء عرضه، وغمرته النشوة عندما شعر أن أفكاره تلقى اهتماما وقبولا، الأمر الذي جعله أكثر استعدادا للشرح الدقيق والتحليل الواسع والإطناب المتطرق لأدق الجزئيات بأدق الصيغ والعبارات..ولم يكن هناك ما يزعجه..
لأن القاعة طبعا ..في غاية الهدوء!
تابع القراءة مرتاحا، وخطر بباله - دون أن يفقد تركيزه - ما يحدث في كثير من الندوات التي تختلط فيها الأصوات، ويكثر فيها الضجيج وعدم الإصغاء، بل يحدث أحيانا أن يقاطع صوت الحاضر مرارا بسبب التدخلات البليدة التي لا تحترم انتهاء العرض ولا تنتظر الدور..وازداد ارتياحه، وحمد الله على انعدام أي تشويش بالقاعة يعرقل قناة التواصل..واقتنع بأن ذلك من سمات الوعي الثقافي والحضاري.
واسترسل يقرأ ..ويقرأ..ويقرا دون شعور بالتعب أو الانزعاج..كل شيء مريح بهذه القاعة الجميلة التنسيق. اللافتات معلقة على الجدران تعلن بخط جميل ملون عن عنوان الندوة وعن المشاركين فيها..وكان اسمه بارزا وسط الأسماء..وبالزوايا علقت الأبواق ذات الجودة العالية في المحافظة على أمانة الصوت، وببعض الأركان وضعت موائد صغيرة صفت عليها مؤلفات المشاركين في الندوة ، والتي تعرض في مثل هذه المناسبات ليقتنيها الحاضرون..ازداد قلبه انشراحا لهذا النظام والتنسيق .. وازداد ارتياحا لهذا الهدوء الذي يفسح المجال للقول..
وما أجمل أن تكون القاعة في غاية ... الهدوء!!
....
....
....
ومر وقت لا يعلم إن كان قصيرا أو طويلا..أحس أنه انتهى من عرضه دون أن يفقد نشاطه ومتعته، شعر بنوع من الرضى يغمر نفسه، واقتنع أنه نجح في إيصال رهاناته..وأن خطابه قد هيمن على القاعة كلها..جمع أوراقه.. وضعها داخل ملفه الأنيق..طاف بعينيه هنا وهناك وكأنه يبحث عن شيء، أو ينتظر شيئا..وظل الصمت الجميل مهيمنا على كل الأرجاء..ذلك أن الكراسي بالقاعة ..
كانت فارغة!!

الثلاثاء، يوليو 07، 2009

ومضات 3

غــــروب
أرسلت الشمس خيوطها متدفقة مختالة
فتراءى ظلي أمامي ممتدا يتهادى
ركضت وراءه طويلا أريد اللحاق به
وعندما كدت الاقتراب منه وملامستها
ختفى فجأة!
فانتبهت إلى أن الشمس قد جنحت إلى المغيب!!
ّّـــــــ
نشيــــد
أنهى زعيم الحزب خطبته كالعادة
دعا الحاضرين للختم بالنشيد كالعادة
بادر متحمسا:
” بلدونـــــــا وطنو..ونـــــــــا ……. ”
ثم التزم الصمت ليكمل الحاضرون بحماس:
” …….روحــــــــي فــــــــداه!! ”
ـــــــــــــــ
خيــط مــن النـــور
أوصد السجان باب الزنزانة
أحكم الإغلاق
وضع الأقفال والمتاريس
فسادت العتمة الأركان ..
وغشت الملامح ظلمة حالكة
أتاحت للكآبة اجتياح النفوس
عندها ..،
تطلعت العيون إلى ألأعلى
لاحظت شعاعا يخترق القضبان هازئا بالأقفال
ويغمر المكان بنوره
ليعود بعض الدفء
للقلوب التي حاول الجليد تجميدها…

القبعة و الحداء

القبعة والحذاء

عربدت القبعة بالقمة كثير
اوخزرت بعينيها إلى الأسفل ساخرة
وعندما مر الحذاء محلقا فوقها كالسهم
أيقنت أن بالسفح مالم يكن ” منتظرا “

رسالة كويلهو إلى بوش


شكرا لك أيها القائد الكبير، جورج و. بوش، شكرا لتوضيحك للجميع، ما يمثله صدام حسين من خطر، فلربما أن الكثير منا قد تناسى استعماله الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، وضد الأكراد والإيرانيين. حسين ديكتاتور دموي، ومن أكثر العبارات المجسدة للشر اليوم.لكن لدي أسباب أخرى لشكرك، فخلال الشهرين الأوليين لسنة 2003، عرفت كيف توضح للعالم أشياء كثيرة، ومن أجل ذلك تستحق امتناني.هكذا، وأنا أتذكر قصيدة حفظتها في صغري، أريد أن أقول لك شكرا.شكرا لتوضيحك للجميع أن الشعب التركي وبرلمانه ليسا سلعة للبيع، حتى ولو كان الثمن 26 مليونا من الدولارات.شكرا لكشفك للعالم عن الهوة السحيقة الموجودة بين قرارات الحكومات وبين رغبات شعوبها. ولإظهارك بوضوح أن خوسي ماريا أزنار وتوني بلير لا يكنان أي احترام للأصوات التي انتخبتهما ولا يعطيانها أي اعتبار. فأزنار قادر على عدم الالتفات إلى 90% من الإسبانيين المعارضين للحرب. وبلير لا يهتم بأكبر تظاهرة شعبية في الثلاثين سنة الأخيرة بأنجلترا.شكرا، لأن تعنتك أجبر توني بلير على التوجه إلى البرلمان البريطاني بملف مزور، حرره طالب منذ عشر سنوات، ليعرضه كـ ” حجج دامغة جمعتها الأجهزة السرية البريطانية “.شكرا لتصرفك بشكل جعل كولين باول يتعرض لمهزلة وهو يقدم لمجلس الأمن بالأمم المتحدة، صورا اعترض عليه علنيا بعد أسبوع، المفتش المسؤول عن الأسلحة العراقية هانز بليكس.شكرا لأن موقفك أكسب الوزير الفرنسي للشؤون الخارجية دومينيك دو فيلبان، وهو يتلو خطابه ضد الحرب، شرف التصفيق المطلق في جلسة منعقدة – الشيء الذي ، حسب اعتقادي ، لم يحدث إلا مرة واحدة في تاريخ الأمم المتحدة، بمناسبة خطاب نيلسون مانديلا.شكرا، لأنه بفضل مجهودك لصالح الحرب، اتفقت الدول العربية – المنقسمة غالبا – على إدانة الاجتياح خلال لقاء القاهرة في الأسبوع الأخير لفبراير.شكرا، لأنه بفضل بلاغتك المؤكدة لخط الأمم المتحدة في إظهار أهميتها، جعلت البلدان الأكثر تحفظا تنتهي باتخاذ موقف ضد مهاجمة العراق.شكرا لسياستك الخارجية التي قادت الوزير البريطاني للشؤون الخارجية جاك سترو، إلى التصريح في خضم القرن الواحد والعشرين بأن ” حربا قد تكون لها تبريراتها الأخلاقية !! “، وبذلك فقد كل مصداقيته.شكرا لمحاولتك تقسيم قارة أروبية تكافح من أجل وحدتها، وهي ملاحظة لن تمر هباء.شكرا على تحقيقك أشياء قلما ينجح فيها أشخاص في قرن من الزمن: جمع ملايين الأشخاص، في جميع القارات، للنضال من أجل فكرة واحدة، رغم تناقضها مع فكرتك.شكرا لإشعارنا من جديد بأن أقوالنا – رغم عدم الالتفات إليها- هي منطوقة على الأقل، وهو ما يضاعف من قوانا مستقبلا.شكرا على إهمالك لنا، وعلى تهميشك لكل من عارض موقفك، لأن مستقبل العالم هو للمنبوذين.شكرا، لأنه بدونك، لم نكن لنعرف قدرتنا على الصمود. ومن الممكن ألا ينفع اليوم ذلك، ولكن، من المؤكد أن يكون ذلك مفيدا غدا.والآن، وطبول الحرب تبدو مدوية بصورة مصممة، أريد أن أتبنى كلمات ملك أروبي، وجهها قديما لأحد الغزاة:” لتكن صبيحتك جميلة، ولتلمع الشمس على ذروع جنودك، لأنني في هذه العشية سأهزمك “.شكرا، لإتاحتك لنا – نحن الجنود المجهولين المتجولين في الشوارع من أجل توقيف سيرورة سارية – فرصة اكتشاف الإحساس بالعجز، وتعلم مواجهته وتغييره.إذا، تمتع بصبيحتك، وبما يمكنها أن تجلب لك من أمجاد.شكرا، لأنك لم تلتفت إلينا، ولم تحملنا على محمل الجد، واعلم بأننا نحن نسمعك، ولن ننسى أقوالك.شكرا، القائد العظيم جورج و. بوش.باولو كويلهو
ترجمة محمــد فـــري [ عن ترجمة فرنسية من البرتغالية ( البرازيل ) لفرنسواز مارشان سوفانياركيس]

الجمعة، يوليو 03، 2009

في إنتظار أن تمطر




في انتظــار أن تمطـــر


لم تمطر أمس

ولا أول أمس ..

بل لم تمطر منذ أسابيع وشهور !


جف الزرع والضرع، واكتست الأرض لونا داكنا بعد أن جفاها الاخضرار، ولعلعت الشمس مهيمنة بحرارتها اللافحة بعد أن طردت كل غيمة حاجبة.


تهامس الناس في البداية في رعب مرددين لفظة الجفاف غير مصدقين، ثم ارتفع الهمس ليصبح جهرا يطرق كل الآذان كأنه احتجاج صارخ ضد المجهول.


...


اجتمع الفلاحون بمسجد القرية، وتحلقوا بعد انتهاء الصلاة حول الإمام يستفتون ويتداولون.


بادر الحاج " صالح " بصوت يغمره الشجن:


- جف ماء البئر يا سيدنا،... وانعدم الكلأ والعشب ... وكادت بهائمنا تموت عطشا وجوعا !


وحك " السي سليمان " لحيته وتابع مستطردا:


- عز الماء .. ولم يعد كافيا لنا ولبهائمنا ولحقولنا


وأضاف " الحاج العربي " بلهجة الواثق العارف:


- وحتى الفرشة المائية المتبقية جرفتها محركات صاحب الضيعة ..


وسرت غمغمة بين الحاضرين اختلطت فيها مشاعر اليأس والرجاء، والتحمت فيها عبارات التمرد والاستسلام، وارتفع صوت يخترق الهمس صائحا:


- هو عقاب من السماء !


ترددت العبارة بين أرجاء المسجد كالإنذار الحاد .. فعقب صوت آخر مدعما:


- عم الفحش وانتشر المسخ فكانت البلوى !


وسرى التذمر بين الصفوف يلقي بسواده على الوجوه الكالحة. ثم أعقبه صمت ثقيل ضاعف الهم والغم، فاتجهت العيون الزائغة يائسة نحو الإمام تستجديه خلاصا. وقطع الصمت صوت في آخر الصفوف ينذر بالويل والثبور إن لم يعجل القوم بما يرضي السماء،


وكأن الأصوات الأخرى قد ارتاحت للاقتراح فأجمعت مرددة وكأنها بدأت تتلمس خيط النجاة:


- فلنرض السماء ! .. فلنرض السماء !


لم ينبس الإمام ببنت شفة .. وأدرك بخبرته أن أصحاب الأصوات يرومون القيام بصلاة تستسقي السماء وتستجدي المطر .. خصوصا وقد تعودوها وألفوها طمأنينة وخلاصا بعد توالي سنوات الجفاف. وعليه أن يعطي الانطلاقة.


وصدح صوت الحاج العربي مؤكدا خواطره:


- عجل سيدنا الإمام بتحديد موعد للاستسقاء.


وصاحت أصوات مساندة:


- لنعجل بالأمر .. بركتك يا سيدنا الإمام .. عجل سيدنا الإمام !


رفع يده بوقار فعم السكون وجحظت العيون دون أن تغادرها سمة الإلحاح .. ونبس بصوت هامس لايخلو من خشوع واثق:


- كل شيء في ميعاده .. كل شيء في حينه.


جالت في الخواطر تساؤلات مبهمة عن الميعاد والحين .. لكنها ظلت حبيسة النفوس المترددة في الكشف والبوح عن دواخلها للإمام .. واكتفى هذا الأخير بنظرة واعدة لا تخلو من مهابة.


انفض الجمع وتفرق الناس يخالطهم هاجس ترقب لحظة صدوع الأمر.


ولم يصدع الإمام بالأمر .. وغاب مدة حسبها الناس أعواما .. وطال الانتظار بعد أن اختفى عن الأنظار.. وتهامس الناس واختلفوا حول أسباب غيابه واختفائه .. وتضاربت الأقوال والتفسيرات..


ذكر البعض أنه لم يغادر بيته البتة .. وأوضح آخرون أنه يتخشع استعدادا للموعد الحاسم .. وأكد أحدهم أنه رآه خلسة يحدق في السماء ثم ينزوي بالداخل .. واتفق الجميع مطمئنين إلى أن الإمام يعد العدة .. لمواجهة هذه الشدة.


...


ولم تكد بضعة أيام تنتهي حتى ظهر الإمام معلنا الإشارة .. منهيا ما خالط النفوس من مرارة .. وأذن بانطلاق السير من ساحة السوق إلى ساحة المسجد.


هلل القوم وكبروا .. وساروا في اليوم الموعود يثيرون الرمل وقد حسروا عن رؤوسهم وتدثروا بجلابيبهم مقلوبة يتقدمهم الإمام منظما للصفوف محافظا على الإيقاع الرتيب للسير والأصوات..


تمت الصلاة في المكان المحدد .. وختمت بالأدعية الطويلة..ولم ينس الإمام أن يبارك الجمع بكلمة طيبة تؤكد سداد رأيه وفيض بركته.


وفي المساء، لاحت في الأفق غيوم خجولة، فاستبشر الناس خيرا، واطمأنوا لقدسية الإمام .. ثم استسلموا لسبات عميق يحلمون بالغد اليسير والرزق الوفير..


وعند الفجر جادت السماء برذاذ رطب خفيف انقلب إلى وابل من المطر الغزير يبشر بملء الآبار وجريان السيول والأنهار..


أنهى القوم الصلاة بالمسجد المعتاد، ولم ينسوا أن يحمدوا الله على وافر الزاد ..ورفعوا الأكف داعين للإمام بدوام التوفيق والسداد، وبأن تعم بركته القوم والعباد..وكالمعتاد، تفرق الناس راضين مرضيين، وتوجهوا إلى حال سبلهم حامدين شاكرين..


وانزوى الإمام ببيته مزهوا .. واتكأ قرب المذياع .. يلامس الأزرار .. ويتسقط الأحوال والأخبار !!

قصص قصيرة جداً

اللوحــــــة
في المعرض تجمعوا حول اللوحة المعلقة
ثرثروا حولها..أبدوا تفسيراتهم
عبروا عن اختلافاتهم..تناقشوا بحدة
فجأة..حضر المكلف مسرعا
اعتذر للجميع
وعدل الوضع المقلوب للوحة
المحاضرة
خطب الطبيب المحاضر في الجمع
بين مساويء التدخين
حذر من عواقبه..اجتهد في طرح الأمثلة
عند الانتهاء..شكر الجميع وودعهم
ثم .. أشعل سيجارة..
ونزل من المنصة
خصــــام
صرخت في وجهه
صرخ في وجهها
غادرت البيت بعد أن حزمت حقيبتها
قال لها مع السلامة وهي تخبط الباب
بعد برهة
حملق في أرجاء البيت الفارغ
ثم تبعها
عينـــــــــــان
قال لها أحبك
قالت له عيناك زائغتان
رد مؤكدا
- عيناي لا تريان غيرك
بجوارهما مرت إحداهن
ظل وجهه ثابتا
و تبعتها عيناه
خطبـــــــة
" القناعة كنز لايفنى "
" التقشف وسيلتنا لمحاربة الطامعين "
" إياكم والتبذير "
صفق الجمع
نزل من المنصة
وركب سيارته الفاخرة التي فتح السائق بابها
شكـــــوى
بصوته الغليظ اشتكى محتجا
- " والله مظلوم.. الجميع يحتقرني..
الكل ينظر إلي شزرا "
بالطوار الآخر مرت فتاة
صرخ شاتما:
- " والقحـ....... !! "
ثم استأنف شكواه
الكاتـــب
أرسل لها القصائد
ردت عليه معجبة
غازلها بلطف
أعجبها كلامه
ضربا موعدا
التقيا
استمعت إليه
تأملته مليا
قال لها: أنا الكاتب
قالت له: أفضل السارد
فطـــــــــورفي الصباح..
اتجه نحو المطبخ
فتح الثلاجة..وصب كأس حليب بارد
بعفوية خطرت بباله فكرة الأخوة من الرضاعة
بهلع فكر في البقرة
إسعـــــــــــــاف
شق رنين منبه سيارة الإسعاف الشارع المكتظ
بمهارة فائقة استطاع السائق تجاوز الاكتظاظ
وإشارات الوقوف والأضواء الحمراء
في وقت قياسي وصل المريض إلى مقر المستعجلات
هناك وضعوه في آخر طابور طويل لاحد له
بطـــــــاقة هويــــة
كان يسير بسيارته مسرعا
أوقفه الشرطي وطلب منه أوراقه
سلمه السائق ورقة واحدة
تركه بعدها يتابع سرعته
نظــــرات
في الحانة نظرا إلى بعضهما شزرا
لم يطق أحدهما الآخر
شربا كأسيهما
زادا كؤوسا أخرى
أعادا النظرإلى بعضهما
فجأة..جلسا إلى طاولة واحدة
وتبادلا الضحكات
م ح م د ف ر ي ...

كــــؤوس


كــــؤوس - محمـــد فــــري


دلف إلى الحانة بسرعة، وكأنه يتملص من ملاحقة مجهولة تثقل كاهله، اتجه كآلة مبرمجة نحو البارمان، رمى بثقله على حافة الكونطوار، اتكأ بذراعه وطلب كأس نبيذ أحمر قان هي افتتاح لزمن لا يستطيع التكهن بنهايته. تلك كانت……..الكأس الأولى،سكب محتواها في جوفه دفعة واحدة، هذا النوع من الخمر الرخيص لا يستساغ تذوقه، أهميته في مفعوله وليس في جودة مذاقه، ثم هو لا يهمه مذاقها، لو رغب في ذلك لجلس في مقهى يتلذذ بكأس عصير حلو، أحس بجوفه يستقبل السائل الوافد دون ترحاب، لم يهتم للأمر، كما لم يهتم بالزبناء من حوله يتعاطون الكؤوس. مزاجه ليس مستعدا للحديث مع أحد، “نبح” كثيرا طيلة الأسبوع وهو يزاول عمله، فليصمت الآن، ولينصت إلى رنين الكأس، رنينه العميق وليس رنين إنائه. تحسس جيبه، عد ما به من نقود، اطمأن إلى العدد، مقدار كاف لإطالة السهرة، تنحنح مناديا البارمان………وكانت …الكأس الثانية،تأملها مليا، حدق فيها، ثم وجه أصابع كفه نحوها، أمسك بها، أحس بنعومتها، تخيل جسدا ناعما طريا، خدر خفيف ينتقل عبر أصابعه إلى أعماقه، حرك فيه ما كان خامدا، حمل الكأس إلى فمه، تجرع نصفها، أعاد الكأس إلى مكانها واستمر محدقا في حمرة محتواها، تذكر إحساسه بالضيق، شعور يسكن داخله دون أن يعرف سببه. الناس يحاربون بعضهم بعضا، احفر لي نحفر ليك، حقد متراكم، كل يبحث عن مصلحته، الأنا ضد الأنا، صراع بشري يضيع فيه من لا يملك مجدافا، وهو لا يملك مجدافا، ولا يهمه أن يملك أي مجداف، اليوم خمر، وغدا خمر، ولك الساعة التي أنت فيها، هات كأسا ياساقي..وتحضر…….الكأس الثالثة،تتحرك أصابعه نحوها، يلتفت إلى البارمان كمن تذكر شيئا:- شوية د القطعة عافاك.يحضر طبق الحمص المسلوق، يلتهمه بشراهة، تتتابع اللقمات ولا تفصل بينها إلا مزات الكأس المتلذذة، يضع الكأس، ويحوم بعينيه متجسسا على من حوله، تقتحم عيناه الكائنات المكدسة بالبار، لتلتصقا بردف ضخمة لإحدى المرتزقات بالمكان، عجيزة مكورة أشعلت حرمانه وحركت شهوته، يتذكر آخر مرة التصق فيها بجسد أنثى، يعجز عن تحديد المدة لطول عهده بآخر عراك جسدي، يفكر في مقايضة جسد الزبونة لكنه ينتبه إلى رصيد جيبه فيحجم عن المبادرة مكرها وهو يغمغم:- بنات ال…، اتفو، يضحكو في وجهك ويطبو ليك في رزقك.حنقه لم يطفيء رغبته، كتم شهوته وأزاح بصره عن العجيزة المكورة، ونادى على كأس أخرى. يسرع الساقي بإحضار…الكأس الرابعة،يتلقفها بترحاب كمن يستقبل امرأة مطواعة، ضالة طال غيابها، تصدر عن فمه ابتسامة تكشف عن أسنانه الصفراء التي لم تعرف الفرشاة مدة طويلة، يقذف إلى جوفه ما تبقى من حمص، يحس بالجوع داخله، ينظر إلى الساقي نظرة تشي بحاجته الملحة إلى طبق آخر، يتجاهله الساقي ويلتفت إلى زبناء الويسكي الأكثر ربحا. يكتم غيظه، ويحملق في الزبناء بفضول شديد، يحدق فيهم واحدا واحدا، تدفعه إلى ذلك جرأة لا يعرف مصدرها، وجوه مألوفة لديه، الشاب النحيل الأنيق في آخر الكونطوار يسند رأسه إلى كفه، عيناه مخفيتان وراء نظارة عريضة سوداء رغم عتمة المكان، قنينات فارغة من الهينيكن تملأ الكونطوار أمامه، كثرة عددها تزيد من اهتمام البارمان، بجانبه زبونة تكشف تضاريس جسدها عن أنوثة مستفزة، تلتصق بالشاب في تهتك خليع، يحيطها بذراعه، تتحسس يده جسدها المتموج لتصل إلى الخصر ثم تنزلق إلى العجيزة فتشدها بقوة. يبلع ريقه، تحرش جنسي يحاصره، يشتد عليه الخناق فتصعد الحرارة من أعماقه إلى أذنيه، يصرخ دون وعي في الساقي….- كأسا خامسة،تحضر الكأس فيهجم عليها كالثور الهائج، يفرغها في بطنه بصوت مسموع، غليان يحاول إطفاءه بالسائل الجهنمي، فلا تزداد النار إلا اشتعالا، تحمر عيناه وتستبد به الرغبة المجنونة، تذكر الليلة التي جلب فيها امرأة إلى بيته، قذفت إليه بجسدها لدقائق معدودات أخذت ثمنها مسبقا، ارتمى عليها كالبغل بدون مقدمات، لا حاجة للمقدمات في مثل حالته، نزل عنها كالديك ثم غادرته مسرعة في سباق مع البحث عن الزبون الضائع، وبقي وحده في بحث عن الإشباع المفقود. تململ فوق مقعده، تذكر كاسيط الأغنية بجيبه، أخرجها بسرعة وأسلمها إلى الساقي الذي ألف تلبية رغبات المستمعين الزبناء، أغلبهم يحملون أشرطة متنوعة تنسجم مع تنوع همومهم، عنصر يساعد الكأس على إجلاء الهموم. دندنت الموسيقى فانتشت الرؤوس، وارتفعت الأصوات في نشاز مستحب، أغمض عينيه وسرح بذهنه مع نغمة الوتار والبندير .. تراءى زمن الشباب، وعاد شريط جلسات السهر مع الأصدقاء.. وتذكر متعته في تنشيط الأجواء الصاخبة ببيته، فاستحق لقب مدير جلسات عن جدارة.. يهش لوجوه، ويبش لأخرى، يستقبل وفودا ويودع وفودا.. لا يهم إن كان يعرف الجميع.. جار ومجرور.. وهو قطب يتحلق حوله مريدوه، ومرحبا بالجميع ذكورا وإناثا. قهقه ضاحكا وهو يتذكر لحظات إشراق ضيوفه، وكيفية استعدادهم للإنشاد كالفقهاء المادحين، فينبرون “لتلاوة” أرجوزة ابن عاشر الفقهية بعد تحريف أبياتها بكلمات ماجنة والمحافظة على إيقاع إنشادها.. فتتصاعد النغمات، وتستبد النشوة بالجميع وكأنهم أسرى موسيقى روحية اجتهد كل المشاركين في إبداع كلماتها التي تفوح جنسا، ” يقول عبد الواحد بن عاشر…”، ويعتقد الجيران أن جارهم يقيم صدقة أو حفلا دينيا، اعتقاد توحي به نغمات الإنشاد الطاغية على معاني الكلمات .. زمن جميل تشتت أفراده، فانغمسوا في مشاكل الأسرة، وظل وحده صامدا يرفض تحمل مسؤولية أحد، هذا جناه أبوه عليه وما جنى على أحد. استفاق كمن اقتلع من حلم جميل، حملق في كأسه الفارغة، لم يتذكر متى تجرعها فنادى بصورة آلية على كأس أخرى..وكانت ….الكأس السادسة،أتته تختال ضاحكة من الحسن حتى كادت أن تتكلم، استقبلها بضحكة حانية، غمس أصابعه في الكأس ومسح وجهه بالسائل كمن يتوضأ، شعر بمرح يجلو كآبته المعتادة، رغبة في التفتح على الآخرين تسيطر عليه، نسي حقده كله واستبد به ” صوت الحنان ” كما يقول أصحاب الميدان فأحس بالحاجة إلى معانقة الجميع، غمغم بكلمات غير مسموعة ورفع كأسه نحو الجميع ليشرب في صحتهم متذكرا أيامه الزاهية، أفرغ الكأس ثم أنزلها مرتطمة بالكونطوار محدثة صدمة مسموعة نبهت الساقي إلى إحضار كأس تالية، لم يعد السائل مرا، حلا الكأس ولا يهم إن كان بداخلها عنب أو حرمل..الكأس السابعة…... الثامنة..العاشرة…..العشرون… الواحدة والعشرون .. ال…انتهى العد…لم يعد مهما..خف الجسد وانقشعت الظلمة وقيل يا أحزان اقلعي .. فأقلعت عن الهطول .. وغيض الضيق والقنوط وأحس بنشوة تتلبسه وكأنها مس من فقدان الوعي .. الوجوه الكالحة استحالت إلى إشراق بهي .. والشفاه المزمومة انفرجت في ابتسامات عريضة .. الكل يبتسم.. هو يبتسم .. والشفاه المتيبسة تبتسم .. بسمات على بسمات تحولت لديه إلى ضحكة صاخبة أزاحت ثقل السنين .. ضحكة مدوية اختلطت مع دوي الموسيقى وصخب الأصوات المترنحة.. جسده يزداد انتشاء .. شعور ملح بالتحدث مع الآخرين ومعانقتهم فردا فردا .. هم زبناء مخلصون يعرفهم ويعرفونه .. لا حاجة إلى الحديث وسط الصخب وليشرع في العناق.. تعطلت لديه لغة الكلام وخاطبت ذراعاه في لغة الهوى أعناقا مختلفة .. انعدمت الرؤية ولم يعد يشعر إلا بملامسة أجساد مكدسة.. ترفق ساعداه فخاض لعبة العناق.. التذ باللعبة فغرق في الجس واللمس .. اختلطت الأجساد لديه .. وسبحت ذراعاه وسط لجج بشرية متشابهة.. لا فرق بين رجل وامرأة .. الكل متشابه لديه…و .. بدون أن يدري .. أحس بقدميه ترتفعان عن الأرض .. ويسبح فوق الرؤوس المتزاحمة باتجاه باب الخروج.. تحولت نشوة العناق إلى نشوة التحليق والطيران.. لكنه سرعان ما يسقط على الإسفلت بجانب الرصيف جاهلا سبب انتهاء التحليق.. يلتفت يمنة ويسرة محاولا استرجاع تحليقه فيتثاقل جسده، يتحامل على نفسه ثم يسير مترنحا مبتعدا عن الحان إلى أن تبتلعه الظلمة .::.

محمــــد فــــــــري

الكاتب النحرير

يعرفه أغلب القراء، فهو الكاتب النحرير، صاحب القلم الخطير، يكتب في كل شيء، في القصة والشعر والنقد، قصاص وشاعر وناقد، موسوعة متحركة، شجرة عجيبة أثقلتها مختلف الثمار، ما أن تهب عليها الريح وتحرك أغصانها حتى يتساقط منها محصول وفير، ومحصوله ما ينتجه من كلام، كلام غزير ووفير، يودعه مختلف الصحف والمجلات، والمواقع الرقمية والمنتديات، حتى لقبه البعض بصاحب اللسان المتعدد الطلقات، وتمادى بعض الخبثاء فاعتبروا كتابته إسهالا لا ينقطع، وكلامه نهرا جاريا لا منبع له ولا مصب.والحقيقة أن كتابته من النوع الذي يمكن اعتباره دائريا، لا تعرف بدايتها من نهايتها، تتعدد مواضيعها، وتتناول كل شيء، يتحدث في الأدب والسياسة والاقتصاد، ولا بأس أن يتناول أحيانا ما يتعلق بقضايا العلم والاختراع، بل يتجاوز ذلك فيبحث في الغيبيات والشعوذة والسحر... جميع المواضيع مفتوحة أمامه، وحتى إذا صدت أبوابها، فبالإمكان النفاذ إليها من النوافذ،فيسبر أغوارها، ويكشف أسرارها.أما أفضل أوقاته، فتلك التي يجلس فيها أمام مكروفون الإذاعة، أو كاميرا التلفزة، حيث يرتدي أبهى ملابسه، ويعتدل في جلسته ليطلق العنان للسانه ، ويفتح باب الإسهال الكلامي، وغالبا ما يتعب معه المذيع صاحب البرنامج، بسبب جريه وراءه في محاولة مستمرة لرده إلى جادة الطريق.الكل يعرف خطورته الكلامية، ولا أحد يجازف بنفسه فيناقشه أو يجادله، لأنه كالماء يتسرب من الأصابع، كلما أغلق عليه باب فتح بابا آخر يسيل منه كلامه، خصوصا وأن له تجربة كبيرة في مجال الخطب الرنانة التي تستعيها المناسبات، وما أكثر المناسبات التي ينحشر فيها، يقرع البيان بالبيان، والحجة بالحجة، ولايهم إن كان يؤمن بالفكرة، فالغاية هي الاستحواذ على السامع، وإقفال الأبواب على الخصم.ولم ينس وهو الأديب المتعدد الوجوه، أن ينحشر مع الكتاب في نقاباتهم و مؤسساتهم، ويتخذ مكانه في صدارتهم، فخاض معهم المعارك، وشاركهم الصراعات والملاسنات، والتي اعتبرها الظرفاء حروب ديكة، يتعالى فيها الصياح، ويتناثر فيها الريش بمختلف أشكاله وألوانه. هو يعرف ما يقوله عنه خصومه، ويستوعب جيدا ما يلمحون به، لكن ذلك لا يهمه، فهم أناس غيورون ينهشهم الحقد والحسد، ومكانته الأدبية يحسد عليها فعلا، فعلى الأقل شارك في مؤتمرات عديدة، وجاب أقطارا كثيرة، مثل فيها الأدب والأدباء، وتحدث بلسان حالهم في غيابهم، وتمتع بالولائم الشهية، وغرف الفنادق البهية، ذات الأفرشة الوثيرة، والتجهيزات المريحة الوفيرة، والبركة في كل ذلك للسانه اللولبي الذي يغرف من بحر لا تكدره الدلاء.ما أحلى الجلوس إذن في ردهات المؤتمرات بالفنادق الفاخرة، يتبادل الحديث مع الجميع، وفي نفس الوقت يتبادل كؤوسا متعددة، امتلأت بسوائل مختلفة المذاق، متعددة الألوان، تعقبها أطباق صفت عليها أشهى الأطعمة، وأطيب الأكل وألذه، يختار منها ما يمتع البصر والبطن، فها هي اللحوم طرية، والخضر بهية، والفواكه الندية، والحلويات ذات أشكال وألوان، وما عليه إلا أن يمد يده وسط الطابور، فيقتني ما يقتني ليضعه في طبقه، ولا بأس إن أضاف كمية أكثر مما تتطلبه بطنه، فالعين تشتهي أيضا، ولها أحكامها الخاصة.متعة نالها إذن في جولات عديدة، وعواصم مختلفة، والبركة في اتحاد الكتاب ، ومؤتمراته الخصبة، ولم يخسر إلا كلمات يلقيها هنا وهناك، فيصفق الحاضرون، وعلى الدنيا السلام.ما أحسن إطلاق العنان للسان، في منبر جميل الشكل، وقاعة شاسعة الأرجاء، مكيفة الهواء، تناثر فيها حضور استعد للمناسبة، وتهيأ للهتاف الذي يخفي بعض الأصوات المشاكسة الحقودة.. خصوصا في المناسبات التي تستدعي تغيير اللجان، وتبديل الأعضاء، فللطبخات هنا دورها الكبير، وهو من هواة الطبخ، وله فيه شهادات كثيرة، دعمها كثير من أمثاله الطباخين.. وعلى ذكر الطبخ، فإن أحسن الأوقات لديه هي عندما يفيض لسانه بخطبة رنانة، ومعدته مليئة بكوكتيل من الطعام، فينطلق إسهال الكلام، في هجوم كاسح، وتعبير جارح، والويل لمن يعترض الطريق، وكأن لسانه يستمد قوته من ضخامة بطنه، فيختلط الحابل بالنابل، وقديما قيل " البطنة تذهب الفطنة ".غير أن الإسهال الكلامي هذه المرة ، واجهه إسهال من نوع آخر لم يكن يتوقعه، فما أن اعتلى الكاتب النحرير، صهوة المنبر الوثير، وأطلق للسانه العنان، حتى أحس بأصوات تتصارع في بطنه، فاختلط صوت اللسان مع صوت المعدة، وسرعان ما أحس بوجع يتجول بأمعائه، ينذره بخروج ما يجب أن يخرج دون تأخير أو تماطل، وأيقن أنه الإسهال اللعين، وهو الحقيقي هذه المرة، فحاول التحكم في الأمر، وجرب أن يتماسك، لكن هيهات، فالمسألة فوق المستطاع، وتبا للإسهال الكلامي أمام إسهال المعدة، فلم يملك إلا أن ينزل من المنبر، ويتجه مسرعا نحو المرحاض، وأوراق الخطبة بيده، علها تساعده في هذا الظرف الحرج.
محمد فري

مشكلته امرأة

القصة هذه المرة ليست لي..بل هي لسارد آخر، قال إنه قرأها قديما، منذ عهد مراهقته..ولا يتذكر أين، كل ما يعرفه أنه اطلع عليها في مجلة فرنسية نسي اسمها بدورها..وأنا بدوري أنقلها عنه كما حكاها لي..لا فضل لي فيها إلا جملا وعبارات وصياغة نمقتها كيفما اتفق لتناسب موضوع النص ورهانه..وبذلك أنفي عني كل تهمة بالانتحالأو..السرقة..فالعهدة على السارد الأول..وما أنا إلا سارد ثان مسخر لقلم كاتب معين..قال لي ساردي الأول:" مشكلته امرأة.. ظل طيلة حياته يبحث عنها .. امرأة ترافقه وتنعش وحدته..يأنس لها وتأنس له..تشاركه همومه وأحزانه..وتقتسم معه أفراحه ومسراته.جرب مرات عديدة أن يقترب من امرأة، ويربط علاقة صداقة على الأقل..غير أن الفشل كان دائما حليفه..لا يتذكر امرأة حام حولها إلا واختصرت حديثها معه وابتعدت .. خيل إليه أنه كلب أجرب يدعو إلى النفور.استعان بجميع الوسائل.. قرأ جل الروايات العاطفية.. وشاهد جل الأفلام الغرامية .. واستفاد من جميع النصائح التي قدمها له أصدقاؤه.. خصوصا أصحاب الباع الطويل في الميدان..قلد جميع طرقهم..واتبع أدق مناهجهم، لكن النتيجة بقيت ثابتة دائما.. تساءل كثيرا عن أسباب هذا الفشل..فلم يعثر على جواب شاف.. منصبه محترم.. يحسده عليه الكثير..وهو ودود مع الجميع.. لطيف المعشر.. يتأنق في حواره..ويختار كلماته وعباراته عند كل حديث..لبق لطيف.. لايخلو حديثه من أبيات شعرية غزلية رقيقة.. كل رفاقه يثنون عليه.. ويتحلقون حوله خصوصا على طاولات المقاهي.. حيث يسخو جيبه..ويفيض كرمه..لذا كثر الأصدقاء دون الصديقات.. والرفقاء دون الرفيقات .. ولم تعره إحداهن اهتماما.أصدقاؤه ناجحون في علاقاتهم النسائية..وأغلبهم متزوجون سعداء بزوجاتهم.. أما هو..فيكتفي بمراقبتهم وغبطتهم.. ألف الفشل وتحالف معه.. بل ربط معه علاقة وثيقة.حقيقة أنه يفتقر إلى الوسامة.. وكثيرا ما التقطت أذناه لفظة البشاعة.. وصفة بشع.. يحملها الهواء إليه من تعريضات البعض وتلميحاتهم.. لكن ذلك لم يكن يهمه.. واعتبره غيرة وحسدا.. فمكانته الإدارية المرموقة تثير حقد الكثيرين.. ثم..إن جمال الرجل أخلاقه.. و.. ما يملكه.. ذاك ما يحدد مكانته الاجتماعية.. والحمد لله هو لا يشكو من هذا الجانب.. وماذا يريد النساء أكثر من ذلك؟يعرف أصدقاء كثيرين لهم زوجات جميلات.. يغبطهم على حياتهم السعيدة الهادئة.. فليته يسعد يوما ما.. ويوفق إلى بنت الحلال !!لكن !.. ما العمل؟.. العين بصيرة واليد... فارغة من كف ناعمة تضغط عليها بحنان.. فليعانق وحدته.. وليستسلم لقدره وصبره.. والله مع الصابرين .. وهو مؤمن بمصيره.. والمؤمن مصاب... ولن يفوز إلا الصابرون !.. ثم إن للحظ أحواله..فقد يأتي ما لم يكن في الحسبان.وأتى ما لم يكن في الحسبان.. ولعب الحظ لعبته..فهاهي فتاة جميلة تثير انتباهه.. كانت سعادته صاعقة عندما اكتشف اهتمامها به.. كانت تمر أمام مكتبه بالإدارة.. فترمي ببصرها إليه وهي مستمرة في سيرها.. حقا.. لا بد أنها نظرة لها معنى.. فالأمر ليس مألوفا لديه.. فالنظرات كانت تقتحمه دون أن تثبت فيه.. ونظرة هذه الحسناء طويلة وثابتة.. فهل غمزت الصنارة.. ووُفق إلى ضالته؟توكل على الله.. واستجمع كل جرأته، وقرر أن يواجه الأمر بحزم .. فالمسألة فرصة نادرة.. والفرص لا تتكرر.. وعليه اقتناصها قبل فوات الأوان..وكاد أن يصعق أكثر عندما استجابت بسهولة لرغبته في التعرف عليها.. اكتشف أن بها أضعاف لهفته !! .. ولولا تماسكه لطار لبه وفقد رشده.. أخيرا وجد امرأة.لم يصدق نفسه وهي تستدعيه إلى فنجان بالمقهى المجاور.. فقبل الدعوة دون تردد.. وتعددت الفناجين.. وتعددت الجلسات..وكثر الحديث بينهما.. وتعددت جوانبه.. وكان يجد متعة في أسئلتها الكثيرة التي لا تنتهي.. وكلها تتعلق بأحواله وأموره.. العامة منها والخاصة..واعتبر ذلك اهتماما فائقا به من جانبها.. خصوصا وأنها تدون كل ذلك في دفتر أنيق لا يفارقها كلما كانت معه.. هو مهم إذن بالنسبة إليها.. إلى درجة أن جل أقواله تستحق التسجيل من طرفها.. وهي ضالته المنشودة التي طال بحثه عنها.. وأخيرا اهتدى إليها .. أو اهتدت إليه..لا يهم.. يكفي أنه استعاد ثقته بنفسه..وأيقن أنه مثل جميع الرجال..والفضل يعود إليها.. لم يهمه أن يعرف عنها الكثير.. سمع منها فقط أنها طالبة بكلية الآداب، شعبة علم النفس.. وأنها تعد أطروحة هذه السنة..وهو لا يريد أكثر من ذلك.. يكفيه أنها فتاة جميلة وأنيقة في كل شيء.. حتى في أسئلتها التي تمطره بها.. ما أحلى أسئلتها التي تتعقب كل دقائقه.. وما أعذب صوتها وهي تبحث في أموره الخاصة.. مشاعره.. أحاسيسه.. انفعالاته..هي إذن فتاة مثقفة.. والمثقفون من عادتهم التدقيق في الأمور.. وهي تدقق لأنها ستبني سعادته معها.. وهو أمر طبيعي.استسلم للأحلام الوردية.. وانشغل بفتاته.. ونسي كل شيء.. والحقيقة أنه لم يكن هناك شيء يستدعي أن ينساه.. فدماغه كان مشغولا دائما بالبحث عن امرأة.. وها هي امرأة في أجمل صورة..مرت بضعة أيام.. وارتاح للزمن وهو يدور دورته معها..وذات مرة وهما بالمطعم الذي اعتادا تناول الطعام به..اضطرت فتاته أن تقوم لإصلاح زينتها بعد انتهاء الوجبة..وبقي وحيدا على المائدة.. يواجهه دفترها الأنيق الذي تركته.. لعلها نسيته.. أو لم تنتبه إليه.. فقد كانت حريصة على وضعه في حقيبتها بعد انتهاء كل حوار.. وفكر أن يتناوله ليعيده إليها بعد عودتها.. امتدت يده إلى الدفتر.. وتاقت نفسه أن يستغل ظرف غيابها ليتصفح بعض عبارات المديح والإطراء.. وربما يجد غزلا وهياما.. وجملا تفيض بالحب والوله..و.. حدثت المفاجأة الثانية.. وكانت القاضية.. لأن الأولى كادت تفقده أعصابه فقط عندما أقبلت عليه فتاته..هوت أحلامه كصخور تتدحرج من أعلى.. وتشنجت أصابعه على الصفحة الأولى.. وقد كتب عليها بالخط العريض:البشـــاعة والاكتئـــاب حالة نموذجيـــــة أطروحة لنيل شهادة الماجستيرشعبة علم النفس للطالبة: فـــلانـــة ( ضع أي اسم مناسب ..)

البذلة المسحورة

البذلة المسحورة للكاتب الإيطالي
دينو بوزاتي
ترجمة
محمـــد فــــري
رغم إعجابي بأناقة اللباس، فإنني عادة لم أكن أعير أدنى اهتمام للجودة الكبيرة أو الصغيرة التي فصلت بها بذل الناس،ومع ذلك تعرفت ذات مساء في حفل أقيم بمنزل ب ” ميلانو “، على شخص في الأربعين، يتألق بسبب الروعة التناسبية الخالصة والمطلقة للباسه.لم أكن أعرفه، التقيته للمرة الأولى عن طريق التقديم كما يحدث عادة، وكان من المستحيل علي معرفة اسمه، لكن في لحظة معينة من السهرة، وجدت نفسي قريبا منه، فبدأنا نتجاذب أطراف الحديث.كان يظهر رجلا مهذبا وجد مؤنس، ومع ذلك تشوبه مسحة من الحزن، وبألفة ربما مبالغ فيها – تمنيت لو جنبني الله إياها – أثنيت على أناقته، بل تجرأت فسألته من يكون خياطه الخاص. افتر ثغره عن ابتسامة صغيرة فضولية، وكأنه كان يتوقع هذا السؤال، رد قائلا:” لا أحد يعرفه تقريبا، ومع ذلك هو خياط ماهر كبير، لكنه لا يشتغل إلا عندما يروق له ذلك، ولزبائن محدودين فقط.”- من أمثالي….؟- أوه ! يمكنك أن تحاول، يمكنك دائما، اسمه كورتشيلا، ألفونسو كورتشيلا. 17 شارع فيرارا.- أتخيل أثمانه باهظة.- أعتقد، نعم، لكن الحق يقال، لا أعرف شيئا. لقد خاط لي هذه البذلة منذ ثلاث سنوات، ولم يبعث لي بأتعابه بعد.- قلتَ كورتيتشيلا؟ 17 شارع فيرارا؟- ” تماما ”أجاب الغريب، ثم تركني ليختلط بجماعة أخرى.بالرقم 17 من شارع ” فيرارا “، وجدت منزلا لا يختلف عن غيره، وكان محل ” ألفونسو كورتشيلا ” شبيها بمحلات الخياطين الآخرين، فتح لي الباب بنفسه. كان شيخا قصير القامة، ذا شعر أسود مصبوغ دون شك. ولدهشتي الكبيرة لم أجد معه أية صعوبة، بل ظهر على النقيض راغبا في أن يراني زبونا له، شرحت له كيف حصلت على عنوانه، وأظهرت إعجابي بتفصيلة ثوبه، وطلبت أن يخيط لي منها بذلة، اخترنا ثوبا صوفيا ناعما، ثم أخذ مقاساتي وعرض علي أن يكمل القياس عندي بالمنزل. سألته عن الثمن، فأجابني بأن الأمر ليس مستعجلا، وأننا سنتفق دائما. في البداية قلت مع نفسي ياله من رجل لطيف، لكنني بعد ذلك، شعرت عند عودتي إلى البيت، أن العجوز القصير قد ترك لدي نوعا من الضيق والانزعاج ( لعله بسبب ابتساماته الملحة والمبالغ في عذوبتها )، على العموم لم تكن لدي رغبة في رؤيته من جديد، لكن البذلة قد تم طلبها منذ الآن، وستصبح جاهزة بعد حوالي عشرين يوما.وعندما تم تسليمها لي، قستها لبضع ثوان أمام المرآة، كانت عبارة عن تحفة، لكنني لم أكن أعرف سبب عدم رغبتي في ارتدائها، ربما كان ذلك بسبب تذكري للعجوز الكريه. ومرت عدة أسابيع قبل أن أتعود على الأمر. ظل ذلك اليوم راسخا بذاكرتي، كان يوم ثلاثاء من شهر أبريل، وكان الجو ممطرا، وعندما ارتديت البذلة – السروال والصدرية والسترة – أدركت بمتعة أنها لا تضايقني مثلما يحدث مع الألبسة الجديدة، وعلى كل حال، فقد كانت في غاية الإتقان.عادة لا أضع شيئا في الجيب الأيمن لسترتي، بل أضع أوراقي في الجيب الأيسر، وهذا ما يفسر إدراكي لوجود ورقة بالداخل عند إدخالي يدي لجيبي بعد ساعتين في مكتبي، لعلها ورقة حساب الخياط؟ لا، كانت ورقة مالية من فئة عشرة آلاف ليرة.ظللت مشدوها، لم أكن أنا طبعا من وضعها هناك، من جهة أخرى كان من العبث التفكير في مزحة قام بها الخياط “كورتشيلا ” ، أو في هدية من طرف الخادمة، وهي الوحيدة التي سنحت لها فرصة الاقتراب من البذلة بعد الخياط، هل هي ورقة بنكية مزيفة؟ عكستها على الضوء وقارنتها مع غيرها فوجدتها صحيحة، ويستحيل أن تكون غير ذلك. قد يكون التفسير الوحيد هو عدم انتباه من ” كورتشيلا “، فلربما قد منحه زبون عربونا، فوضعه في جيب سترتي التي كانت معلقة، وهذه أشياء ممكنة الوقوع. قرعت الجرس مناديا السكرتيرة، كنت عازما على إرسال كلمة ” لكورتشيلا ” لأعيد له ماله الذي ليس من حقي. لكنني في هذه اللحظة بالذات، ولا أعرف لماذا، أدخلت يدي إلى جيبي من جديد.” ما بك سيدي؟ هل تشعر بوعكة؟ ”سألتني السكرتيرة التي دخلت توا.كنت شاحبا كالميت، فقد لامست أصابعي بجيبي أطراف ورقة لم تكن موجودة قبل لحظات. قلت:-” لا، لا، لاشيء، دوخة خفيفة، يحدث لي ذلك منذ مدة، هو تعب دون شك، يمكنك أن تنصرفي يا صغيرتي، كنت سأملي عليك رسالة، لكننا سنفعل ذلك فيما بعد ”ولم تكد السكرتيرة تنصرف حتى أخرجت الورقة من جيبي، كانت ورقة مالية أخرى من فئة عشرة آلاف ليرة، بعدها قمت بمحاولة ثالثة، وأخرجت ورقة ثالثة.بدأ قلبي يخفق بشدة، أحسست أنني منجذب ، لأسباب خفية، داخل دائرة حكاية خرافية شبيهة بتلك التي نحكيها للأطفال ولا يصدقها أحد. وبحجة شعوري بالتعب، غادرت مكتبي وتوجهت إلى منزلي، كنت بحاجة إلى أن أكون وحيدا.من حسن الحظ كانت الخادمة قد غادرت البيت. أقفلت الأبواب وأسدلت الستائر، وبدأت في استخراج الأوراق المالية بكل ما أملك من سرعة، الواحدة تلو الأخرى، من الجيب الذي يبدو لا ينضب.كنت أقوم بذلك بتوتر وتشنج عصبي خوفا من انتهاء المعجزة بين لحظة وأخرى، تمنيت أن استمر العشية كلها، والليل بأكمله إلى أن أجمع الملايير، لكنني في لحظة معينة أحسست بقواي تنهار. كانت أمامي كومة مثيرة من الأوراق المالية، وكان المهم الآن أن أخفيها، حتى لا يراها أحد. أفرغت صندوقا قديما كان مليئا بالزرابي، وفي قعره وضعت حزم الأوراق المالية التي كنت أحصيها بالتتابع، والتي تجاوزت الخمسين مليونا.عندما استيقظت صباح الغد، كانت الخادمة واقفة مندهشة لرؤيتي بكامل بذلتي في الفراش، تكلفت ضحكة وأنا أشرح لها بأني بالغت في الشرب الليلة السابقة، وأن النوم غلبني دون أن أشعر.أحسست بقلق جديد عندما اقترحت علي الخادمة مساعدتي على خلع سترتي، كي تمرر عليها الفرشاة على الأقل. أجبت بأن علي أن أخرج بسرعة، وليس لدي وقت لتغيير بذلتي. ثم أسرعت متوجها نحو محل لبيع الملابس الجاهزة لشراء بذلة أخرى تشبه بذلتي في كل شيء، وسأترك البذلة الجديدة للخادمة، أما بذلتي، تلك التي جعلت مني في بضعة أيام أحد أقوى الأشخاص في العالم، فسأخفيها في مكان آمن.لا أدري إن كنت أعيش حلما، أو كنت سعيدا، أو كنت على النقيض أختنق تحت ثقل مصير كبير وعنيف. في الطريق، ومن خلال معطفي الواقي، كنت أتحسس باستمرار مكان الجيب السحري، وفي كل مرة أتنهد بارتياح، فقد كان صوت الورقة المالية يجيبني باستمرار.غير أن مصادفة أخرى أثلجت حمى فرحي، ففي جرائد الصباح عناوين كبيرة: الإعلان عن سرقة حدثت بالمساء يغطي كل الصفحة الأولى تقريبا، سيارة بنكية مصفحة جمعت رصيد النهار، وتوجهت إلى البنك المركزي، فتم إيقافها وسرقتها من طرف أربعة لصوص بشارع ” بالمانوفا “، وعندما سارع الناس إليهم، أطلق أحدهم النار ليؤمن هروبه، فأصابت رصاصة أحد المارة وأردته قتيلا. لكن ما أثارني فعلا هو المبلغ المسروق: فقد كان خمسين مليونا بالتمام والكمال ( نفس المقدار الذي بحوزتي ).هل يمكن وجود علاقة بين ثروتي المفاجئة وبين حدث السرقة الذي وقع في نفس الوقت؟ يبدو التفكير في ذلك مضحكا، وأنا لست متشائما، ومع ذلك فقد تركني الأمر في حيرة.كلما ازدادت ملكيتنا كلما رغبنا فيما هو أكثر. كنت فعلا غنيا مقارنة مع حياتي المتواضعة، لكن سراب حياة أكثر رفاهية كان يغريني، وفي المساء نفسه، استأنفت العمل، كنت أمارسه الآن بثقة أكثر، وبأعصاب أكثر استرخاء، فتنضاف مئة وخمسة وثلاثون مليونا إلى الثروة السابقة.لم أستطع إغماض عيني تلك الليلة، هل هو إحساس بالخطر؟ أو تأنيب ضمير رجل يقتني ثروة غير مشروعة؟ أو إحساس غامض بالذنب؟ وفي الساعات الأولى من الفجر، قفزت من فراشي، وارتديت ملابسي ثم أسرعت باحثا عن الجريدة، أحسست بالاختناق في أثناء القراءة: حريق مروع بسبب انفجار خزان بترول هدم عمارة بشارع ” سان كلورو” في وسط المدينة، وبالمقابل حطم خزائن وكالة عقارية كبرى تلاشى بداخلها أكثر من مئة وثلاثين مليونا نقدا، وقتل شخصين من رجال المطافيء عند محاربة الحريق.هل علي أن أعد جرائمي الواحدة تلو الأخرى؟ نعم، فانطلاقا من هذه اللحظة أدركت أن المال الذي تمنحه لي السترة مصدره الجريمة، الدم، اليأس، الموت، مصدره الجحيم. لكن، وبطريقة ماكرة، رفض عقلي مستهزئا الاعتراف بأية مسؤولية من طرفي، وهكذا عادت الإثارة، وعادت يدي - وما أسهل الأمر – تندس في جيبي لتعانق أصابعي بتلذذ مفاجيء زوايا ورقة مالية جديدة دائما، المال، المال الرباني.ودون أن أرحل من منزلي القديم ( كي لا أثير الشكوك )، اشتريت في وقت سريع قصرا فخما، وامتلكت مجموعة من اللوحات النادرة، وركبت سيارة فاخرة، بعد أن غادرت عملي” لأسباب صحية “. سافرت وتجولت في أرجاء العالم رفقة نساء حسناوات.كنت أعلم كلما جلبت مالا من سترتي، أن شيئا كريها ومؤلما يحدث في العالم ، لكن هذا التزامن كان مبهما، لم يكن يستند إلى حجج منطقية، وعند كل تحصيل كان ضميري يتضاءل، ويتصف بالنذالة أكثر فأكثر.والخياط؟ هاتفته لأسأله عن ثمن البذلة، فلم يجبني أحد. وبشارع ” فيرارا ” أخبروني أنه هاجر ورحل إلى الخارج، ولا يعرف أحد أين. كل الأشياء تحالفت فيما بينها لتؤكد لي دون أن أعرف أنني تحالفت مع الشيطان.استمر الأمر على هذه الحال إلى اليوم الذي تم فيه اكتشاف جثة امرأة عجوز في الستين من عمرها بالعمارة التي أقطنها منذ سنوات طويلة ، كانت قد انتحرت اختناقا بالغاز لأنها فقدت ثلاثين ألف ليرة، هي حصيلة معاشها الذي توصلت به ذلك اليوم..( وانتهى بين يدي ).كفى ! كفى ! يجب أن أتخلص من سترتي حتى لاأسقط أكثر في هذه الهوة، لكن دون أن أتخلى عنها لشخص آخر، لأن العار سيستمر( فمن يقدر على مقاومة كل هذا الإغراء؟ )، علي إذن أن أحطمها.وصلت بسيارتي إلى وادي مهجور بمنطقة ” الألب “، تركت سيارتي على أرض معشوشبة، وتوجهت نحو الغابة، كان المكان مقفرا، وعندما تجاوزت البلدة وصلت إلى منطقة حجرية، وهناك بين صخرتين ضخمتين، أخرجت البذلة الكريهة من الكيس، بللتها بالبنزين ثم أشعلت فيها النار، وبعد ثوان لم يتبق منها سوى الرماد.لكن، وعند آخر شعلة من اللهب، سمعت خلفي – على بعد مترين أو ثلاثة – صوتا بشريا يصيح:” تأخرت، تأخرت “، وبفزع التفت بعنف كأن أفعى لدغتني، لكنني لم أجد أحدا، بحثت في جميع الجهات، من صخرة إلى أخرى لأكشف عن اللعين الذي يلعب معي هذه اللعبة، فلم أجد أحدا،لم تكن هناك غير الصخور.ورغم الفزع الذي استشعرته، نزلت إلى الوادي وإحساس بالارتياح يغمرني، ها أنا قد تحررت أخيرا، وأملك ثروة طائلة.لكن عند المنحدر، لم أجد السيارة، وعندما رجعت إلى المدينة وجدت القصر قد اختفى، وبمكانه أرض مهملة بها لافتة تعلن عن أرض للبيع. وحساباتي بالبنك، لم أفهم كيف انقرضت بسرعة، وأسهمي الكثيرة اختفت من خزائني الحديدية العديدة، ولم أجد إلا الغبار داخل الصندوق القديم.منذ ذلك الوقت استأنفت عملي منهكا، والغريب أن لا أحد فوجيء بإفلاسي السريع.وأعلم أن الأمر لم ينته بعد، أعلم أنه في يوم ما، سيدق جرس الباب، وسأفتحه لأجد أمامي هذا الخياط الشقي بابتسامته الماكرة، يطلب مني تسديد دين البذلة.دينو بوزاتيDino Buzzati. ( Le Veston ensorcelé )Traduit par J.Remillet,Robert Laffont,1967

حلم فوق بساط الريح

حلم فوق بساط الريح
وأخيرا حصل على شهادة الباكلوريا، أحس بسعادة عارمة، وشعر بارتياح كبير، وكأن ثقلا قد انزاح عن كاهله..عانى الكثير في السابق، وذاق مرارة الرسوب مرارا، وواجه اليأس وواجهه لحظات عديدة، لكن الكلمة الأخيرة كانت لإرادته وعزيمته.لم يكن كسولا أو بليدا، فقد استوعب المقرر بطوله وعرضه، وكرر استيعابه مرات ومرات بسبب تكرار السنوات، فأصبح مرجعا للتلاميذ الجدد، يستفتونه في معلومات مختلفة، فيجيبهم بإسهاب، ويحل مااستعصى عليهم.. مشكلته فقط أن الحظ لم يحالفه.. ولم يرد أن يلجأ إلى طرق الغش وفنونه التي برع فيها بعض أصحابه..وهنا يتذكر لجوء الكثير منهم إلى العنف.. ويبتسم عندما يستحضر ما قام به أحد زملاء عندما وضع سكينا على طاولة الامتحان، وعندما استفسرته المراقبة عن ذلك أجابها بأن الأمر لا يتعلق بسكين بل بمسطرة فقط، يستعين بها في وضع الخطوط، فلم تملك المسكينة إلا الانسحاب والإفلات بجلدها.. يطرد من ذاكرته صورا أخرى مشابهة .. هو يريد أن يفوز في الامتحان باجتهاده وعرق جبينه.. ربما لأنه لم يجرب الغش يوما .. وربما لأنه يريد أن يشعر بقيمة النجاح ولذة تحقيقه.صبر كثيرا.. ولم ييأس.. وانتظر حظه.. فزاره حظه في الأخير.. ونجح في امتحان الباكلوريا.أحس أن أبواب السماء قد فتحت.. وفتحت معها أبواب الدراسات العليا بالمعاهد والكليات، وما عليه إلا أن يختار.. الطب مهنة راقية.. ومستقبلها زاهر.. فبضاعتها رائجة، والأمراض منتشرة والحمد لله، وكل الأطباء مياسير. حقيقة سيبذل جهدا خلال الدراسة، لكن مستقبل المهنة مضمون. ثم إن الاختيارات عديدة.. فالهندسة أيضا مهنة يحترمها الجميع، ودور المهندس في المجتمع مهم، ولقب " مهندس " له سحره وبريقه..وكذلك لقب أستاذ، لكن هو لا يفضل التعليم، فمردوديته المادية غير مريحة، وجميع المدرسين يشتكون، إذن فليختر القانون، لأن مجاله واسع وفسيح، قد يكون قاضيا يحسب له ألف حساب، وينعم بحياة ميسرة، جميع القضاة الذين يعرفهم يقطنون أحياء راقية، فليتوكل على الله، ويقتحم سلك القانون.. ثم هناك المحاماة، فالمحامي رجل مهم أيضا، يجلجل صوته في ساحات المحاكم، والمشاكل متوفرة لا تنتهي.. إذن فبضاعة المهنة غير كاسدة.ابتسم مستسلما لأحلامه.. واحتارفي الميدان الذي سيختار.. المجالات متسعة إذن.. والمستقبل زاهر والحمد لله.. وشهادة الباكلوريا بجيبه جواز سفر.. يرحل به حيثما يريد، وما عليه إلا أن يوجه الدفة.. وباسم الله مجراها ومرساها.وابتدأ الجري.. أو بالأحرى التحليق.. تسلح بنسخ عديدة من شهادة الباكلوريا.. ولم ينس أن يصادق عليها من طرف ولاة الأمر " بمقاطعة " الحي.. وهيأ رزما من عقود الازدياد وشهادات السكنى والحياة وأوراقا مختلفة منها المتنبرة والمدموغة وما وقعها " المقدم " و" الشيخ " والقايد.....ملف ثقيل مكتمل يشفع له بولوج الكلية التي ارتضاها حلمه.امتطى شهادته كبساط الريح.. وطار بها محلقا ينشد الهبوط في المكان المناسب.. حط به التجوال بمدرج الكلية الأولى.. وتخيل المسؤولين يستقبلونه بحفاوة.. ولاحظ طوابير مصفوفة متراصة.. اعتقد أنها جمهور المستقبلين.. فإذا به يكتشف وجوها كالحة أضناها طول الانتظار.. يحمل أصحابها ما يشبه ملفه الثقيل.. بها شهادة تشبه شهادته.. وأيقن أنهم " ناجحون " مثله، ينتظرون فتح الأبواب.. لم يصدق الأمر.. وبعد تردد حاول الانحشار معهم.. لكن الزحام كان شديدا، ومع ذلك صبر وانتظر دوره، فقد ألف رفقة الصبر منذ زمن.. وبعد مدة أتى دوره.. أطلوا عليه من الشباك.. وتأملوا أوراقه.. ثم قالوا له" متأسفون، ملفك تنقصه أوراق مهمة نسي أن يوفرها..أوْ لم يكن بمقدوره أن يتوفر عليها.. وعليه أن يبحث عن كلية تتناسب مع إمكانيات ملفه.."وارتأى أن يحلق من جديد ليحط بمعهد آخر.. فلقي نفس الرد.. ولم ييأس.. وحلق مرة ثالثة ورابعة و.. و.. ونفذ وقوده.. ولم ينتبه لمقدار الزمن الذي استغرقه التحليق والطيران..ثم قام بآخر محاولة.. دق بعد جهد باب المطار/الكلية..ولم يطلوا عليه من الشباك هذه المرة.. بل أدخلوه من الباب.. وأجلسوه على الكرسي.. وتفحصوا أوراقه مليا.. ثم أعادوا له الملف والأسف على وجوههم- غير مقبولة- لماذا؟- انتهت مدة صلاحية الشهادة.......- ؟؟؟ !!!! - عليك اجتياز امتحان آخر للباكلوريا من جديد !!
محمــــد فــــري

الكاتب الورقي...

الكاتب الورقي
محمد فري
القاعة فارغة، الكراسي مصطفة دون أن يجلس عليها أحد..بالركن منبر مستطيل وضعت عليه ميكروفونات تستعد لنقل أصوات المحاضرين..وبالجدار لافتات تعلن عن ندوة حول الكتابة الرقمية..المستقبلون بباب القاعة ينتظرون استقبال من يأتي..لحظات تمر دون أن يظهر أحد..لكن بعد فترة يظهر بعض الحضور، يليهم آخرون على فترات متفرقة. لم تمتليء كل الكراسي..ظل أغلبها فارغا..ومع ذلك قرر المنظمون عدم الانتظار..ولعلهم كانوا متعودين على عدم حضور أشخاص كثيرين..لذا أعلنوا عن افتتاح الندوة، مكتفين بالجمع القليل. جلس المحاضرون بأماكنهم أمام الميكروفونات..وشرعوا في طرح أفكارهم وعرض آرائهم بالتناوب. التفت ورائي فإذا بالكاتب الكبير يحتل مقعدا بالصفوف الخلفية، استبشرت خيرا، وخمنت أن الندوة ستكون غنية بالأفكار المفيدة والتدخلات الفريدة..ولم أهتم بنظرة غريبة تشع من عينيه، وربما لاحظتها أكثر عندما سمعت سعاله المتكرر، وعدم استقراره في جلسته..وقلت لعلها نظرة تنم عن فيض ذكاء..أو هي مؤشر عن اختلافه وتفرده..ومن حق الكتاب الكبار أن يختلفوا عن الناس العاديين..ماداموا يملكون رؤى تسبق المرئي..وسينتظر انتهاء العرض ليتدخل برؤيته ومعرفته التي ستكون حتما جديدة متطورة تتناسب مع موضوع الندوة المتطور والمتجدد..وبذلك سيبحر بنا في عوالم الإعلام والرقميات الأنترنيتية..وتمنيت لو تواجد أدباء كبار آخرون..لكن لابأس، ربما منعتهم أشغالهم الكثيرة..فمثلهم لايجدون وقتا يحكون فيه رؤوسهم.لأن هذه تكون مشغولة بالتفكير..فهم دوما في نقاش وجدال لا ينتهي..وهو نقاش وجدال قد يمارسونه في أوقات فراغهم كذلك..هذا لو افترضنا أن لهم أوقاتا فارغة.. خمنت ذلك عندما كنت ألمحهم مصادفة ببعض المقاهي أو الحانات..وقد علا صياحهم وكلامهم الذي لم أكن أتبينه أو أسمعه..ربما بسبب الضجيج واختلاط الأصوات..ولكن كنت ألاحظ حدة تشوب هذا الصياح والكلام .. وكنت أقدر دائما أنها حدة لا يمكن أن تكون إلا بسبب قضية أدبية أو خلاف حول إشكالية فكرية..ولا أدل على ذلك من كثرة الكؤوس والقنينات الفارغة التي كانت تملأ طاولاتهم..وطاولاتهم كانت دائما مليئة.. تؤكد طول امتداد جلساتهم وأحاديثهم..والحديث ذو شجون كما يقولون..وبما أن شجونهم لا تنتهي فكذلك حديثهم الذي يضطرون إلى إتمامه في جلسات شبيهة أخرى.. وحمدت الله على عدم انشغال الكاتب الكبير في هذه اللحظة التي يجالسنا فيها..ولعله سرق من وقته الثمين هذه اللحظات ليقضيها معنا في هذه الندوة التي تفتخر بقدومه.. المحاضرون مستمرون في طرح أفكارهم ومناقشاتهم..والناس الجالسون يسمعون..ربما كان البعض لا يسمع..وربما كان البعض الآخر منشغلا بالتفكير في أشياء أخرى..لكن المهم أنهم كانوا يملأون بعض الكراسي الفارغة..والأهم أنهم كانوا صامتين..والصمت من علامات الاستماع والانتباه.. استمر المحاضرون في مداخلاتهم..كلامهم كان واضحا يملآ جنبات القاعة..والغريب أن كلامهم كان يتحول إلى أرقام تسبح فوق رؤوس الحاضرين..بل هما رقمان فقط، يتكرر عددهما إلى ما لانهاية: الرقم ” صفر ” والرقم ” واحد “..أعداد هائلة من الصفر تتحرك بشكل أفقي، وتمتد في صفوف منتظمة مشعة..وأعداد أخرى مثلها من الرقم ” واحد ” تتصاعد في شكل عمودي..وأحيانا تتداخل الصفوف العددية في نظام بديع. انتبه الحاضرون أكثر، ولم يعد بعضهم يفكر في أشياء أخرى..بل إن البعض الآخر منهم ألقى ماكان بيده من أوراق كان يسترق إليها النظر، وراح يتابع في شغف مع الآخرين الرقصة الرقمية..كل الحاضرين تابعوا تحركات الأرقام المتراصة كالبنيان .. وشغفوا بنظامها الرائع وهم يتابعون تحليقها بأجواء القاعة..وربما لم يألفوا رؤية هذا المشهد المثير فانشدوا إليه.. التفت إلى الكاتب الكبير، ورجحت ألا يقل اندهاشه وإعجابه عن اندهاش وإعجاب الحاضرين..وخمنت أن يصفق بحرارة لهذه السمفونية الرقمية المنتظمة الإحكام..لكن تخميني خاب عندما وجدته مكشرا عابس الوجه، وظننت أن الرقصة لم تعجبه، وأنه سيقترح في النهاية نظاما آخر لها..وسيسهب لا محالة في شرح اقتراحه..وستتضاعف الأرقام ويشتد عودها أكثر نتيجة هذا الإسهاب.. لكنه لم يحرك ساكنا..وفي خضم صمت الحاضرين المشدودين للظاهرة الرقمية..انطلقت ضحكة هستيرية مدوية..ولعلها كانت قهقهة حادة اخترقت سمعي بقوة..ويقينا أنها اخترقت آذان الحاضرين..وما كاد هؤلاء يستطلعون الخبر حتى تلتها ضحكة كانت أكثر حدة.. التفت أبحث عن مصدر الضحك، وإذا بي أفاجأ بالكاتب الكبير في حالة تشنج وهو يغمغم بكلام غير مفهوم .. ثم يشفع ذلك بضحكات أخرى متقطعة..كان يفعل ذلك وهو ينش الأرقام وكأنه يحاول سَوْقَ سرب ذباب..وربما اعتقدها بعوضا عضوضا فاستعان على محاربتها بملف أوراقه الذي كان يحمله معه..كان الغضب مستبدا به، وكان حنقه على الأرقام واضحا من خلال ملامحه.. استمر في هشه ونشه وسط استغراب الجميع ..والغريب أن لا أحد حاول أن يثنيه عن ذلك ..وربما كان الجميع متيقنا من عدم حاجة الأرقام إلى مساعدة أحد، ومن قدرتها على الدفاع عن نفسها.. لذلك تضاعفت أعدادها بشكل هائل..وتضاعف حنق الكاتب عليها وعلى نظامها الذي تتشكل به أمامه، وتضاعف عنفه في مواجهتها.. كان يستنجد بضحكاته الساخرة المتقطعة ليكسر صفوفها وينقص من قيمتها..لكن الأرقام لم تتأثر بقهقهات الكاتب الكبير..ولم تعر اهتماما لنشات ملفه الورقي الذي اتخذه سلاحا ضدها..وانطلقت حرب رقمية ورقية: الأرقام تهاجم..والأوراق تهش وتنش عشوائيا..والحاضرون يتابعون المعركة في صمت.. ..الإعياء يظهر على الكاتب الكبير من كثرة النش..والأرقام تضاعف من هجومها باستمرار، وتنطلق مجددا في خطة حربية محكمة.. ويظهر أن الخطة كانت ناجحة، فقد تشكلت الأرقام في صفوف أكثر تماسكا وتنظيما، وكانت أعداد هائلة من الأصفار تتصدرها..لتتعقبها أعداد هائلة أخرى من الرقم ” واحد “..وكأنها ذروع وراءها رماح حادة..وينطلق هذا الجيش العرمرم في هجمة حربية واحدة نحو الكاتب الكبير، ويحاصره من جميع الجهات..وتنفلت بعض الأرقام من الصفوف كفرسان يستهدفون المبارزة..لتحط على أنفه وأذنيه وتبدأ عملية القرص واللذغ، فلا يملك المسكين الكبير إلا الصراخ..لكن الأرقام تتجمع من جديد حول فمه فيختفي صراخه.. ويوقن بهزيمته فيسلم قدميه للريح تاركا القاعة ملكا للأرقام المنتصرة..ويتلاشى في الخارج.. وعلى الأرض..كانت أوراق الكاتب الكبير منثورة هنا وهناك..وكانت الأرقام تقرضها تدريجيا إلى أن تلاشت بدورها.

الخميس، يوليو 02، 2009

الهـــــــــــــــورلا(*) ( الخفي الحاضر) غي دو موباسان Le horla Guy de maupassant ترجمة محمـــد فــــري

استدعى الدكتور ماراند، أشهر وأنبغ طبيب عقلي، ثلاثة علماء من زملائه المهتمين بالعلوم الطبيعية، لقضاء ساعة معه في المستشفى الذي يرأسه، كي يعرض عليهم أحد مرضاه. حالما اجتمع زملاؤه، قال لهم:" سأعرض عليكم أغرب وأخطر حالة واجهتها. على كل ، ليس لي ما أقوله لكم عن زبوني. سيتحدث هو نفسه." حينئذ دق الدكتور الجرس ليدخل الخادم رجلا. كان شديد النحافة، نحيفا كجثة، كنحافة بعض الحمقى الذين تنخرهم الأفكار ، ذلك أن الفكرة المريضة تفترس لحم الجسد أكثر من الحمى أو السل. سلم وجلس، ثم قال: أيها السادة، أعرف لماذا اجتمعتم هنا، وأنا مستعد أن أحكي لكم قصتي، استجابة لرغبة صديقي الدكتور ماراند. لقد اعتبرني مخبولا مدة طويلة، لكنه اليوم يشك في ذلك، بعد قليل ستدركون، مع أسفي وأسفكم وأسف الإنسانية كلها، أن عقلي سليم ونير و مستبصر كعقولكم، لكن أريد أن أبدأ بالأحداث نفسها، بالأحداث بكل بساطة. وهاهي: أنا في الثانية والأربعين، لست متزوجا، ثروتي كافية كي أعيش نوعا من الرفه. كنت أقطن بمنزل على ضفاف نهر السين، في " بييسار "، قرب " روان ". أحب القنص والصيد. ذلك أن ورائي فوق الصخور الكبرى المحيطة بمنزلي، إحدى أجمل غابات فرنسا، غابة " رومار "، وأمامي أحد أجمل الأنهار في العالم. مسكني واسع رحب، خارجه مصبوغ باللون الأبيض، جميل، عتيق، وسط حديقة كبيرة مغروسة بأشجار رائعة تصل حتى الغابة، صعودا نجد الصخور الكبرى التي حدثتكم عنها قبل لحظات. يتكون طاقم خدمي، أو كان يتكون، من حوذي، وبستاني، وفراش، وطباخ، ومنظفة تقوم في نفس الوقت بدور خادمة.كل هؤلاء كانوا يقطنون معي منذ عشرة إلى ستة عشر عاما، كانوا يعرفونني، ويعرفون مسكني والمنطقة، وكل ما يحيط بحياتي. كانوا خدما طيبين مسالمين. وهذا مهم بالنسبة لما سأقوله. أضيف أن نهر السين الذي يحاذي حديقتي، صالح للملاحة حتى " روان "، كما تعلمون دون شك، وكنت كل يوم أراقب البواخر الكبيرة، سواء ذات الأشرعة أو البخارية، تأتي من كل أنحاء العالم. مر عام إذن منذ الخريف الماضي، حيث أصبت فجأة بوعكة غريبة غامضة، بدأت كنوع من القلق العصابي الذي يبقيني مستيقظا ليالي كاملة، نوع من التهيج يجعلني أرتعش أدنى صوت، تعكر مزاجي، وانتابني غضب مفاجئ مبهم. استرشدت بطبيب نصحني بمحلول " برومور البوتاسيوم " وحمامات الماء البارد. كنت إذن آخذ حمام الرشاس صباحا ومساء، وأتناول شراب البرومور. في الواقع استعدت نومي في وقت قريب، لكنه نوم أفظع من الأرق. ما إن أستلقي حتى أغمض عيناي وأتلاشى، نعم، أغوص في العدم، عدم مطلق، موت كلي للكائن الذي يجذبني منع بعنف وفظاعة، إحساس رهيب بثقل يضغط على صدري، وبفم يلتهم حياتي فوق فمي، آه من هذه الهزات ! لم أعرف شيئا أكثر منها رعبا. تصوروا رجلا نائما يتعرض للقتل، فيستيقظ وفد انغرز سكين في عنقه، ثم يحشرج وهو ملطخ بالدم، ويعجز عن التنفس ويموت، دون أن يفهم شيئا....ذاك هو حالي ! هزل جسدي بصورة مقلقة ومستمرة، ولاحظت فجأة أن حوذي الذي كان بدينا قد بدأ يهزل مثلي. سألته في الأخير: " مابك ياجان؟ إنك مريض " أجابني: " لعلني أصبت بنفس مرض سيدي، إنها ليالي التي تفقد نهاراتها " فكرت أن بالمنزل تأثيرا محموما ناتجا عن محاذاة النهر، وكنت على وشك السفرلشهرين أو ثلاثة، رغم أننا كنا في أوج فصل الصيد، إلى أن لوحظ مصادفة حدث صغير غريب جدا، جلب لي نوعا متتابعا من الاكتشافات اللامعقولة والغرائبية والمفزعة. كان العطش قد أصابني ذات ليلة، شربت نصف كاس ماء، ولاحظت أن القنينة الموضوعة على الأريكة مقابل سريري، كانت مليئة حتى سدادتها الكريسطالية.في الليل، تعرضت لنوع من هذا الاستيقاظ الفظيع الذي حدثتكم عنه. أشعلت الشمعة وأنا فريسة لاكتئاب مروع، وما كدت أشرب من جديد، حتى لاحظت بفزع أن القنينة كانت فارغة، لم أصدق عيناي، إما أن أحدا دخل غرفتي، أو أنني كنت في حالة نوم ويقظة. في الليلة الموالية، عزمت على القيام بنفس التجربة، أغلقت إذن غرفتي بالمفتاح لأتأكد من عدم استطاعة أحد الدخول علي، نمت واستيقظت كالعادة في كل ليلة، كان الماء الذي رأيته قبل ساعتين قد شُرب. من شرب الماء؟ أنا بدون شك. ومع ذلك أعتقد أنني متيقن، جد متيقن من أنني لم أقم بحركة خلال نومي العميق والمؤلم. التجأت إذن إلى حيل لأقنع نفسي انني لا أقوم بهذه الأفعال اللاواعية. وضعت ذات ليلة قنينة نبيذ معتق من نوع بوردو، وكأسا من الحليب الذي لا أستسيغه، وقطعا من حلوى الشكولاطة التي أحبها. بقي النبيذ وقطع الحلوى على حالها، واختفى الحليب والماء، كنت أغير المشروبات والأكل كل ليلة، ولم يحدث أن مست الأشياء الصلبة والسميكة، ولم يكن يُشرب كسوائل سوى الحليب الطري والماء على الخصوص. لكن هذا الشك المؤلم استقر داخل أعماق روحي، ألم أكن أنا الذي أنهض دون وعي، وأشرب حتى الأشياء التي أشمئز منها؟ ذلك أن حواسي المخدرة بسبب النوم المسرنم يمكن أن تتغير، وتفقد اشمئزازها الطبيعي، وتكتسب أذواقا مختلفة. ايتعنت إذن بحيلة جديدة ضدي، لففت كل الأشياء المعرضة للملامسة بشرائط من الموسلين الأبيض، وغلفتها من جديد بمنشفة من قماش الباتيست. ثم، وفي لحظة ذهابي للفراش، لطخت يداي وشفتاي وشنبي برصاص الأقلام. عند استيقاظي، ظلت كل الأشياء نقية، رغم تعرضها للملامسة، فالمنشفة لم تكن في الوضع الذي تركتها عليه، كما أن الماء والحليب قد شربا، علما أن بابي المقفل بمفتاح الأمان ومصاريعي المغلقة بالأقفال احتياطا لم تترك مجالا لتسرب أحد. بذلك وضعت على نفسي هذا السؤال الخطير: من كان هنا كل ليلة بجانبي إذن؟ أشعر أيها السادة، أنني أحكي لكم كل هذا على عجل، تبتسمون، وتقررون حكمكم مسبقا:" إنه مجنون "، كان لزاما علي أن أصف لكم مطولا شعور رجل مقفل عليه في بيته، وبعقل صاف يرى عبر كاس قنينة، اختفاء قليل من الماء خلال نومه. كان علي أن أفهمكم هذا العذاب المتجدد كل مساء وكل صباح، وهذا النوم الخفي، وهذه الاستيقاظات الأكثر فظاعة أيضا. ومع ذلك سأتابع، فجأة، انتهت المعجزة، لم يعد أي شيئ يمس بغرفتي، انتهى كل شئ، شعرت بالارتياح. زد على ذلك أنني استعدت انشراحي عندما علمت أن أحد جيراني، السيد لوجيت، قد كان في نفس الحالة التي كنت عليها. اعتقدت من جديد أن الأمر يتعلق بعدوى محمومة أصابت البلاد. وكان الحوذي قد غادرني منذ شهر وهو مريض جدا. مر الخريف، وظهرت بوادر الربيع. وذات صباح، رأيت وأنا أتجول قرب حديقة زهوري، رأيت بجانبي وبوضوح تام، ساقا لإحدى أجمل الورود تنكسر، وكأن يدا خفية تقطفها، وتتبع الوردة انحناءة وكأن ذراعا تتجه بها لقمة نحو فم، فتبقى معلقة في الهواء، شفافة، وحيدة، جامدة، مفزعة، على مقربة من ناظري. تملكني جنون مخيف، وارتميت نحوها أريد الإمساك بها دون أن أجد شيئا، كانت قد اختفت. هنا أصابني غضب عنيف ضد نفسي، إذ ليس مسموحا لرجل عاقل وجاد أن يتعرض لمثل هذه الهلوسة ! لكن، هل كانت حقا هلوسة؟ بحثت عن الساق فوجدتها بسرعة على الشجيرة، طرية الكسر، وسط وردتين ظلتا على الغصن، ذلك أنها كانت ثلاث ورود رأيتها بأم عيني. رجعت إذن إلى بيتي منكسر الروح. اسمعوني أيها السادة، إنني هادئ تماما، لم أومن أبدا بالخوارق، ولن أومن بها اليوم أيضا. لكن، انطلاقا من هذه اللحظة، تأكدت، كتأكدي من وجود النهار والليل، أن كائنا خفيا تواجد بقربي وسكنني، ثم غادرني ليعاودني. بعد فترة حصلت على الدليل. أولا كانت تنشب بين خدمي خصومات شديدة لألف سبب تافه في مظهره، لكنها من الآن فصاعدا أصبحت بالنسب لي أسبابا غنية بالمعاني . ثم ينكسر كأس، كأس بنذقي جميل، ينكسر وحده بخزانة الأطباق في غرفة الطعام، وفي واضحة النهار. كبير الخدم يتهم الطباخة، وهذه تتهم قيمة البياض التي تتهم بدورها لا أعرف من. أبواب تغلق ليلا لتصبح مفتوحة، حليب يسرق كل ليلة من المخزن. – آه ! من يكون؟ ماطبيعته؟ فضول قلق، ممزوج بالغضب والفظاعة ينتابني ليل نهار في حالة قصوى من الهيجان. لكن المنزل استعاد الهدوء مرة أخرى، واعتقدت من جديد أن الأمر أحلام إلى أن حدث الأمر التالي: كان ذلك في 20 يوليوز، على الساعة التاسعة مساء، كان الجو حارا جدا، تركت نافذتي مشرعة، والمصباح المنير فوق الطاولة يضيء مجلدا لــ(مــوسي) مفتوحا على صفحة " ليلة ماي "، وكنت ممددا على الفوتوي العريض حيث أنام. ذلك أنني بعد أن نمت حوالي أربعين دقيقة، فتحت عيناي من جديد دون أن أبدي حراكا. لا أدري أية عاطفة غريبة وغامضة أيقظتني، لم ألاحظ في البداية شيئا، ثم فجأة بدا لي أن صفحة من الكتاب قد طويت وحدها، دون أن تكون هناك هبة ريح متسربة من النافذة، اندهشت، وانتظرت. وبعد أربع دقائق تقريبا، رأيت، نعم رأيت، أيها السادة، بعيني هاتين، صفحة أخرى ترتفع ونتزل على سابقتها وكأن أصبعا طوتها. كان الفوتوي يبدو فارغا، ولكن فهمت أنه هناك، هو ! اجتزت الغرفة في قفزة واحدة كي أمسك به، ألمسه، أقبض عليه، إن أمكن ذلك... لكن الفوتوي انقلب قبل أن أصل إليه، كأن هناك من هرب من أمامي، المصباح أيضا سقط وانطفأ، وانكسر زجاجه، والنافذة رجت بقوة وكأن شقيا تشبث بها وضرب على قفلها وهو يحاول الفرار...آه ! ارتميت على الجرس مناديا، ولما حضر الخادم قلت له:" لقد قلبت وحطمت كل شئ، أشعل النور " لم أنم تلك الليلة، ومع ذلك استطعت أن أكون مرة أخرى لعبة للهلوسة. عندما أفقت ظلت حواسي مضطربة، ألم أكن أنا من أسقط الفوتوي والمصباح مندفعا كالأحمق؟ لا، لم أكن أنا ! كنت أعرف ذلك دون أن أشك ولو ثانية، ومع ذلك أود أن أصدق. انتظروا. الكائن ! كيف أسميه؟ الخفي، لا، هذا غير كاف، لقد سميته " الهورلا ". لماذا؟ لا أعرف. إذن لم يعد الهورلا يفارقني أبدا، كان لدي كل نهار وليلة إحساس ويقين بحضور هذا الجار المتعذر الإمساك، واليقين أيضا بأنه يستنزف حياتي، ساعة ساعة، ودقيقة دقيقة. كانت استحالة رؤيته تغيظني، وكنت أشعل كل مصابيح منزلي وكأنني سأستطيع اكتشافه في كا هذا الضوء الساطع. ورأيته أخيرا، إنكم لا تصدقونني، ومع ذلك رأيته. كنت جالسا أمام كتاب ما، لا أقرأ، ولكنني أتربص، وكل أعضائي متحفزة، متربصا بهذا الذي أشعر به قريبا مني، طبعا كان هنا، لكن أين؟ ماذا يفعل؟ كيف يمكن الوصول إليه؟ أمامي فراشي ذو الأعمدة والخشب السندياني، وعلى اليمين مدفأتي، وعلى اليسار بابي الذي أقفلته بعناية، بالخلف خزانة تحتوي على مرآة أستعين بها يوميا من أجل الحلاقة، ورؤية كيفية لباسي، حيث اعتدت على أن أرى نفسي من الرأس إلى القدمين كلما مررت أمامها. تظاهرت إذن بالقراءة كي أخادعه، لأنه كان بدوره يتجسس علي، وفجأة، أحسست أنه هنا يكاد يلامس أذني، لقد كنت متأكدا من تواجده خلفي يتابع ما أقرأه. وقفت والتفت بسرعة كادت تفقدني توازني، وإذن ! ... كانت الرؤية واضحة وكأننا وسط النهار ... ولم أر نفسي في المرآة ! كانت فارغة، صافية، مليئة بالضوء، ولم تكن صورتي بها ... وكنت واقفا أمامها ... أنظر إلى الزجاج الكبير، شفافا من أعلى إلى أسفل ! كنت أنظر ذلك بعينين فزعتين، ولا أستطيع أن أتقدم، شاعرا بأنه متواجد بيننا، وأنه ينفلت مني مجددا، لكنني شاعر أن جسده اللامحسوس قد امتص صورتي المنعكسة. كم أصابني الخوف، ثم فجأة بدأت أرى نفسي عبر ضباب في عمق المرآة، ضباب كأنه عبر طبقة مائية، وكان يخيل لي أن هذا الماء ينزلق ببطء من اليسار إلى اليمين، جاعلا صورتي تتضح ثانية بعد ثانية. كان ذلك مثل انتهاء لحظة كسوف. لم يظهر أن الشيء الذي أخفاني كان يملك تقاطيع جسم محددة بدقة، بل نوعا من الشفافية المعتمة المتضحة شيئا فشيئا. استطعت أخيرا أن أميز نفسي كليا كما كنت أفعل كل يوم وأنا أنظر إلى المرآة. لقد رأيته، واحتفظت بفزع ظل يرعشني. وفي الغد، كنت هنا، حيث رجوت أن يحتفظ بي. الآن، أيها السادة، أصل إلى الاستنتاج بعد أن شك الدكتور ماراند طويلا في الأمر، قرر أن يسافر وحده إلى بلدتي. ثلاثة من جيراني، هم مصابون الآن مثلي. أليس كذلك؟ أجاب الطبيب:" هو كذلك ! " لقد نصحتهم بأن يتركوا الماء والحليب في غرفهم للتأكد من اختفاء هذه السوائل. وقد قاموا بذلك. هل اختفت هذه السوائل كما حدث عندي؟ أجاب الطبيب بجدية رسمية:" لقد اختفت " إذن، أيها السادة، إنه كائن، كائن جديد، سيتعدد دون شك مثلما تعددنا، وقد ظهر مؤخرا على الأرض. آه ! إنكم تبتسمون ! لماذا؟ لأن هذا الكائن يظل خفيا عن الأعين، لكن عيننا إيها السادة، ماهي إلا عضو بدائي يستطيع بالكاد أن يميز ماهو ضروري في حياتنا، ينفلت منها ماهو صغير، ينفلت منها ماهو كبير، ينفلت منها ماهو بعيد، إنها تجهل الأشياء التي تعيش داخل قطرة ماء، تجهل سكان ونباتات وأرض النجوم المجاورة، لا ترى حتى ما هو شفاف. صعوا أمامها مرآة دون طبقة القصدير التي يطلى بها ظهرها، ستعجز عن تمييزها، وستدفع بنا نحوها مثلما يحدث للعصفور المحبوس في البيت عندما يصدم رأسه بزجاج النوافذ. إذن هي لا ترى الأجسام الصلبة والشفافة والتي توجد فعلا، لا ترى الهواء الذي نتغذى به، لا ترى الريح التي هي أكبر قوة في الطبيعة، والتي تطيح بالناس، ونسقط الأبنية، وتقتلع الأشجار، وتهيج البحر ليغدو جبالا من الأمواج تهدم الجرف الصخرية. ماالمدهش في كونها تعجز عن رؤية جسم جديد، يفقد دون شك الخاصية الوحيدة لعكس الأشعة المضيئة. هل ترون الكهرباء؟ ومع ذلك هي موجودة ! هذا الكائن الذي سميته " الهورلا " موجود أيضا. من هو أيها السادة؟ إنه الذي تنتظره الأرض بعد الإنسان ! الذي سيزيحنا عن عرشنا، ويستعبدنا، ويروضنا، وربما سيقتات بنا، مثلما نقتات بالأبقار والخنازير البرية. منذ قرون ونحن نستشعره، نخشاه ونتبأ به ! لقد سكن الخوف من اللامرئي آباءنا دائما. هاهو قد وصل. كل حكايا الجنيات والعفاريت، والأجسام التائهة في الفضاء، الشريرة والمتعذرة الإمساك، كانت تتحدث عنه، عنه الذي توقعه الإنسان القلق والخائف منذ أمد. أقول لكم إنه قد وصل، هو نفسه مايزال يتجول قلقا مثل الإنسان البدائي، جاهلا قوته وجبروته التي سيدركها قريبا، قريبا جدا. وللختام أيها السادة، هذه مجموعة من الجرائد التي وقعت بيدي والقادمة من ريو دي جانيرو. أقرأ عليكم: " يظهر أن نوعا من وباء الجنون، يعيث فسادا منذ مدة بمقاطعة سان-باولو. وقد هاجر سكان قرى كثيرة أراضيهم وديارهم زاعمين أنهم متابعون وملتهمون من طرف مصاصي دماء خواف يقتاتون بأنفاسهم خلال نومهم ولا يشربون إلا الماء والحليب أحيانا. أضيف:" قبل إصابتي الأولىببضعة أيام، والتي كنت سأهلك بسببها، أتذكر جيدا أنني رأيت سفينة برازيلية ذات سوار ثلاث برايتها المنبسطة البيضاء ... كنت أخبرتكم بأن منزلي يحاذي النهر ... لقد كان مختبئا في هذه السفينة دون شك ..." ليس لدي ما أضيفه أيها السادة. نهض الدكتور ماراند مغمغما، " أنا بدوري لا أعرف إن كان هذا الرجل مجنونا أو أننا مجنونان معا ..، أو .. أن خليفتنا قد وصل حقا."
غي دو موباسان 26 أكتوبر 1886 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هو مصطلح ابتكره موباسان في هذا النص ليعبر عن كائن غريب غير واضح المعالم..وبتحليل مصطلح le horla قد نجده مكونا من" hors " و" la "، مما يوحي بالمتواجد خارجنا والحاضر معنا في نفس الوقت..

هواجس على هامش السرد

بقدر ما أنا سعيد باحتلالي هذا المنبر..بقدر ما أنا منفعل ومضطرب..السارد الذي عولت عليه عصيني وتمرد علي، فتركني في ورطة لم أستعد لها، حاولت استرضاءه والتقرب إليه دون جدوى، فقد صمم على عناده وغيابه..ربما اعتصم بدوره في مكان ما مطالبا بحقوق لا أعرف عنها شيئا..أو ربما كان متوترا بدوره، يرهب اللحظة التي تفرض عليه أن يواجهكم فيها بحكيه.. قلت لابأس، سأحاول الاستغناء عن خدماته، وأغض الطرف عن وساطته، خصوصا وأنها وساطة تسقطنا في لعبة الضمائر وزوايا النظر، فنضيع بين المتكلم والمخاطب والغائب، وتتعقد الأمور في بعض الأحيان، ، فتغيب الحبكة والرهان، ويختلط الزمان بالمكان، ويرحل الحكي مع خبر كان… فكرت أن تكون قصة ذات طابع خاص، تبتعد عن المعتاد والمطروق، وتتباهى بزي منمق مرموق، تبهر السامع، وتشد ذهنه بأسلوب لامع.. ترددت في اختيار تيارها ومنهجها.. وقلت سأنطلق من الواقع، فهو يحفل بالأحداث العديدة، وبالوقائع القديمة والجديدة، ولن أكتفي بالنقل أو الوصف المحايد، بل سأعيد السرد عن طريق إعادة البناء ..هي عبارة سمعتها عند الكثير من النقاد وهم يصفون ويحللون وينتقدون، فأعجبتني العبارة، وقلت أجرب دون اعتبار الخسارة. فكرة مثيرة حقا..لعلكم تتفقون معي فيها..أليس كذلك سيداتي و سادتي؟.. غير أن الأمر ما يزال مقلقا بالنسبة لي..وماتزال بعض الهواجس تتراكم بذهني..فالنص رغم بريق لفظة “إعادة البناء “، سيبقى مخلصا للتيار الواقعي..مصنفا في خانته..والمشكل أن الكثيرين الآن يعتبرونه تيارا متجاوزا..بل هناك من وصفه بالأصنام التي يجب تحطيمها وهدمها..فخشيت أن أصنف مع أصحاب الرأي القديم، وذوي الفكر الرميم..و صعقت عندما سمعتهم يهتفون بقتل الأب..وقلت ماشأني وتيار يثير غضب البعض ونقمتهم..فيصل بهم الأمر إلى التفكير في قتل الأب والجد وأب الجد..؟ ولعلهم يقصدون ما تركوه من موروث عفا زمنه..وانقضى ألقه وعمله..على كل أنا لا أنتظر إرثا..ولا أملك إلا ما أتوفر عليه من زاد بعض الكلمات.. أحاول التعبير بها عن بعض المَهمات…ولايهمني أن يقتلوا الأب والجد والعائلة كلها..أو أن يقتلوا النص برمته..ليتهم على الأقل يتركون المؤلف فلا يمسونه بسوء. هاأنتم تلاحظون سيداتي سادتي أن الحيرة تستبد بي.. مع أن الأمر في غاية البساطة، فكل ما أرومه هو تقديم نص ألقيه على جنابكم في هذه الجلسة الكريمة المخصصة للسرد..وللقصير منه بالخصوص.. فكرت من جديد..وتساءلت: أليس من المستحسن أن أعتمد تيارا حديثا – حتى ولو لم يكن حديثا بما فيه الكفاية – وأتجاوز ما يثير التصنيف مع القدماء؟.. لم لا أشتغل على اللغة كما يقولون.. وأجرب كما يجربون؟ وأكسر وأحطم كما يكسرون ويحطمون..؟؟ فسوق التجريب رائجة.. والحركة فيها هائجة مائجة..فعلى بركة الله..ولأخض هذه التجربة المثيرة.. على الأقل لن أخسر شيئا إذا فشل تجريبي أو فشلت تجربتي..ومهما كانت الانتقادات سأقول إنني كنت أجرب..ولم أدع عملا متكاملا منتهيا..هي تجربة وحسب..والتجربة دائما عمل مفتوح.. والكثيرون يعيدون كتابة النص مرات عديدة في نطاق التجريب والتجربة.. بذلك سأتخلص من هواجسي التي يذكيها ترددي وعدم يقيني.. وللإشارة هنا أرجوكم سيداتي سادتي ..لا تحسبوا إشارتي هنا غمزا أو لمزا..فأنا لا أعرض ب\أحد، ولا أعارض تيارا معينا.. وربما لا أساند آخر..أريد أن أبقى دائما محايدا.. وقد يساعدني الحظ.. وتفيدني الممارسة فأكتشف تيارا محايدا لا ينبذ القديم ولا يرحب بالجديد..لا تسألوني سيداتي سادتي عن التفاصيل..هي هواجس تصدر عني..وربما أفكر الآن بصوت مرتفع.. فتظهر لكم أفكاري غير خاضعة لمنطق معين.. على كل الخضوع لمنطق الأشياء يحيل على المحدود.. والمحدود نقصان دائما.. عفوا سيداتي وسادتي .. أخشى أن أضايقكم بهواجسي .. لكن أؤكد لكم من جديد أنني لا أستطيع السيطرة عليها .. ولا أتحكم فيها..وهذا يزيد من تكريس معاناتي .. فهي ما تزال تلاحقني اللحظة .. لذا أرجو تقدير الموقف. لا أخفي عليكم شيئا عزيزاتي أعزائي.. الحيرة تستبد بي .. والذهن يبحث باستمرار عن النص المناسب..المناسب لهذه الجلسة طبعا .. والمناسب لي أيضا..والتفكير أرقني كثيرا .. خصوصا وأنني لست الوحيد الذي سيتحدث إليكم اليوم.. فهناك كتاب آخرون سيتناوبون على هذا المنبر .. وسيقرأون نصوصهم بدورهم..وبقدر ما أشعر بنوع من السعادة وأنا بينهم.. أتعرف على بعضهم وأجدد اللقاء مع بعضهم الآخر.. بقدر ما أشعر بنوع من الرعب ينتابني .. وبظنون متلاطمة تغزوني .. فأنا يا سيداتي و يا سادتي أجهل الوضعية التي سيحتلها نصي (أقصد المكتوب طبعا، والذي يلزمني أن أقرأه عليكم ) مقارنة مع نصوص المشاركين الآخرين .. وهذا هاجس آخر ينضاف إلى سابقيه.. ويرفع من درجة التوتر. أعترف إذن أن هواجسي تتضخم أكثر وأكثر.. وربما سيتسبب لي ذلك في عقدة لا يمكن حلها .. حتى ولو تضافرت عليها جهود أساطين المحللين النفسايين .. عفوا سيداتي سادتي .. أعتذر مرة أخرى إن أطلت .. وأعتذر للمشرفين على هذه الجلسة أيضا .. فالوقت محدد مسبقا .. وأنا أعترف بذلك .. لكن أقسم لكم أنني صادق فيما أقول .. بل فيما أعترف به لكم..فما زلت أبحث عن النص الذي أنا ملزم بقراءته عليكم. بالأمس فقط التقيت بصديق شاركني مرحلة الدراسة بالكلية .. فحكيت له عن هواجسي .. واعترفت له بحيرتي ومشكلتي، وليتني ما فعلت ذلك..فقد أجابني بقهقهة صاخبة أزعجتني وضاعفت من قلقي .. بل تضاعف هاجسي عندما سألني عن جدوى الكتابة .. ووصل بي الحد إلى الغيظ والغضب الشديدين عندما أكد عجز الكتابة عن أن تنتج ولو مسمارا رخيصا..وأن الأمر يبقى كلاما في كلام.. ثم قهقه من جديد وابتعد عني ساخرا.. لا أخفيكم مدى تأثير كلامه في نفسي .. والتساؤلات التي أثارها بداخلي.. هل للكتابة فائدة حقا؟ وإن كان ذلك حقيقيا..فماهو السبيل إلى ذلك؟ وما خصوصيات الكتابة المفيدة؟ وما طبيعة هذه الفائدة؟ هي تساؤلات أعترف أنها زادت من همي وغمي .. وأقر بأنني عاجز عن مناقشتها والتفكير في عناصرها .. ولست مستعدا أن يناقشني فيها البعض .. فيتهمني بقصور الفكر وضبابية الرؤيا .. وهذا طبعا يضاعف هواجسي كالعادة..ويعقد مشكلتي. معذرة مرة أخرى .. كان حريا بي أن أحكي لكم حكيا .. وأسرد عليكم سردا .. لكن التفكير انزاح عما قصدته قصداً .. وابتعدت عن الغاية بعداً .. فلم أملك لذلك رداً .. فلتتقبل قصتي أريحيتُكم .. وأعتذر إن أخلفت أفق انتظاركم .. فالعتب على غياب السارد .. وعلى عجزي عن الإمساك بهذا المارد.. ومع ذلك أيتها السيدات .. أيها السادة .. زملائي .. زميلاتي .. أصرح أنني لن أستسلم .. سأكتب لا محالة حروفا وكلماتْ .. تنضاف إلى نصوص سابقاتْ .. وأعدكم – للمرة الألف – أنني سأنتصر على الهواجس اللعينة ..وأبحث عن سارد جيد ..يحقق الوعد المعهود .. ويمنحني النغم المفقود.. فمازلت أتوق إلى نص مختلف .. يمتعني ويمتعكم .. ويحقق رغبتي ورغبتكم .. فانتظروني أعز الله قدركم .. وشرف جمعكم..والشكر الجزيل لكم. عفوا أيها الإخوة والأخوات لم أنته بعد.. أعترف وأنا أتعثر خجلا . بأنني بحاجة إلى تصفيقاتكم .. وأرجو أن تكون صادقة غير مجاملة .. وأهمس لكم بسر .. وأرجو أن يبقى بيننا.. ولا يسمعه غيرنا: هذه التصفيقات هي زادي الوحيد الذي سأتغلب به على هواجسي.. شكرا لكم جميعا مرة أخرى ( ملتقى القصة بالبيضاء - 28/07/07 ) محمـــد فـــري

....

...